إذا كانت الحرب الأهلية الإنكليزية دفعت بهُوبز إلى معانقة العرش الإنكليزي، ذريعته في ذلك أن الجماهير غير قادرة على تنظيم نفسها أو على حكم نفسها بنفسها، لأنها تعيش في حالة من الفطرة في غياب النظام المتمثل لديه في العرش، فإن هذه الحرب ذاتها نبهت جون لوك (1632- 1704) إلى أهمية حرية الشعوب التي تظل غير مكتملة إلا في إطار النظام الدستوري. كان والد جون لوك محاميا خبيراً بالقانون الإنكليزي، وخاض غمار الحرب الأهلية مدافعا عن البرلمان. نشأ الابن في هذا الجو من النضال في سبيل الحرية إلى أن عشقها عشقا مفكرا واعيا. انطلق هذا المفكر من نفس الفرضية التي انطلق منها هوبز – حالة الطبيعة- إلا أنه صاغ منها رؤية جديدة شكلت دعامة فكره السياسي؛ وعلى الخصوص؛ في العقد الاجتماعي. إن الإنسان يولد وعقله على الفطرة التي قال بها هُوبز، ثم تأتي التجربة في الحياة التي يجني من ورائها خبرةً؛ أي معرفة. يقول لوك: ‘العقل صحيفة بيضاء تنقش عليها التجربة فيه بانطباعاتها’. من هنا يتبين لنا أن جون لوك ينكر فطرية الأفكار في العقل الإنساني. ومنها يستنتج المساواة بين بني البشر ما دام جميعهم يولدون بدون موَرِّثات عقلية؛ أي على الفطرة. فهم سواسية وما الفروقات التي تظهر بينهم إلا أثر لنوع تربيتهم. هذا الرأي يخالف رأيي أفلاطون وديكارت اللذين يذهبان إلى القول بأن العقل يحتوي أفكارا قبلية لا علاقة لها بالتجربة أو بالحس عموما، كما يخالف أيضا رأي أرسطو الذي يفرق المجتمع المدني إلى طبقات (أسياد، وعبيد). من هنا اعتبر لُوكْ أحد مؤسسي المذهب الحر الجديد حتى اشتهر في أوروبا كلها بكونه يناصر الحرية. على عكس رأي هوبز القائل بأن الإنسان ذئب الإنسان، وأن هذا الأخير قوة غاشمة تقوم على غريزة حب البقاء؛ يذهب لوك إلى أن للإنسان حقوقا مطلقة عالمية وشاملة لا تتعلق بالمجتمع ولا يخلقها العقل ما دام هذا الأخير مكتسباً، لذا فحالة الطبيعة؛ التي رأى هوبز أنها حياة متوحشة يسودها قانون الأقوى؛ يرى لوك أنها كانت قائمة على الحرية الطبيعية، أي أن المساواة هي مقياس العلاقات بين الناس الذين كانوا أحراراً مهما كانوا فُرادى. بالتالي فالحياة الفطرية السابقة على نشأة الجماعة، في نظره، كانت تدعو الناس الأحرار بوعي إلى الاجتماع في جماعة طبيعية سابقة عن المجتمع المدني يسودها قانون طبيعي سابق عن القانون المدني. وعليه فحق الناس يتجسد في تنمية حريتهم هذه التي كانوا يتمتعون بها في الحالة الطبيعية، وذلك يستلزم تمتعهم بجميع الحقوق الطبيعية كحق التملك والحرية الشخصية وحق صونهما معاً. ينطلق لُوك مرة جديدة من حق حرية الملكية الخاصة ليبني فكره السياسي. إنه يرى، على عكس هوبز، أن الملكية الخاصة كانت فعلاً موجودة في مرحلة حالة الطبيعة، وهي بذلك سابقة على المجتمع المدني. لذا فحق الملكية الخاصة، في نظره، ظل حقا طبيعيا يقوم على العمل ومقدار العمل، وليس على الحيازة أو القانون الوضعي، ويخضع لشرطين أساسيين هما: صون المالك لملكيته من التلف، وتركه للآخرين ما يكفيهم. ولِلُوكْ في حق الملكية الخاصة وجهة نظر رأسمالية تقوم على غريزة متعة التملك. ولإشباع حاجة الناس إلى الاستمتاع بملكياتهم وضمانها، خرجوا من الحالة الطبيعية فكونوا (مجتمعاً مدنياً) منظما غايته الأساسية هي المحافظة على الملكية الخاصة لإشباع غريزة متعة التملك، لكن بالتشريع فقط لا بالحكم. هنا يتفق لوك مع هوبز على أن الحكومة الصالحة هي إحدى ذرائع قيام العقد الاجتماعي التي يجب ألا تتعلق بإقليم مقدس أو بأشخاص يرثونها و يوَرثونها لأولادهم وأحفادهم، ولا يتعلق أيضا بالعادات ولا بالتقاليد. لقد قامت الدولة في البداية على تعاقد واعٍ بين أناس عقلاء للاجتماع والتعاون في ما بينهم ضد التهديدات الخارجية، وعلى اتفاق واع بين الحاكم والمحكومين؛ في نظر لوك، لذا فهذا العقد يفرض، من ثم على الحكومة شروطاً والتزامات، وإذا ما أخلت حكومة ما بأحكام العقد، كأن تهدد الحقوق الطبيعية للمنتسبين، يصبح من حق المحكومين أن يثوروا عليها من أجل صياغة عقد اجتماعي جديد لتكوين حكومة بديلة تكون أصلح في نظرهم؛ وفي نظره. *كاتب مغربي
كلام جميل..
مطلوب التوثيق