«أنديرا هاتاو إنديري باتشاو»

حجم الخط
1

كان سانغاي ابن أنديرا غاندي الأصغر والحاكم الفعلي للهند في منتصف السبعينيات، يظن أنه يسدي خدمة كبيرة لبلاده وشعبه، حين رفع شعار (أسرة صغيرة أسرة سعيدة)، وقرر استخدام القوة الجبرية لحل المشكلة السكانية، خلال فترة الطوارئ التي دامت من منتصف 1975 حتى مطلع 1977، والتي تم فيها تعليق الحقوق الديمقراطية «مؤقتاً»، بدعوى أنه لن تكون هناك جدوى لأي تنمية اقتصادية في ظل تزايد عدد السكان، فبدأ سنّ قوانين للتعقيم الإلزامي لكل شخص لديه طفلان أو أكثر، وتقديم حوافز مالية لمن يقبلون الخضوع لعمليات التعقيم.
وفي نهاية عام 1976 كان قد تم تعقيم حوالي 21 في المئة من الأزواج في الهند، ولم يخلُ الأمر من استخدامات طائفية لتلك السياسات، كما حدث في قرية مسلمة قريبة من العاصمة الهندية، ألقى رجال الشرطة فيها القبض على جميع ذكور القرية لتعقيمهم بالقوة.
لم يتوقع سانغاي ومعاونوه أن ربط سياسات تنظيم الأسرة بوصمة الطوارئ والإجبار، سيؤدي إلى تسارع معدلات النمو السكاني في الهند، ومع أن ملايين الهنود نجحوا في إسقاط حكومة أنديرا غاندي وخليفتها المنتظر سانغاي، بعد أن انتشر شعار «أنديرا هاتاو، إنديري باتشاو: تخلص من أنديرا وانقذ قضيبك»، وقامت الحكومة الجديدة بنقض سياسات سانغاي، إلا إن سياسات تنظيم الأسرة ظلت متراجعة بشدة طيلة عقود، وعانت البلاد من كوارث مثل رفض الملايين تطعيم أطفالهم ضد الأمراض الفتاكة اعتقاداً منهم أنه حيلة لتعقيم أطفالهم.
يقدم الباحثان أبهيجيت بانرجي وإستر دوفلو هذه الوقائع كدليل على كوارث السياسات التي «توضع على أساس من الجهل بأرض الواقع فتعيش على الورق وحسب»، مؤكدَين أنه يستحيل وضع سياسات سكانية ناجعة قبل فهم الأسباب التي تدعو الفقراء لإنجاب أطفال كثر، وعلى رأسها اعتبار أغلبهم أن أطفالهم هم عقودهم الاقتصادية الآجلة، ووثائق تأمين لرعايتهم في الكبر وأوقات الشدة، بينما لا يحتاج الآباء في الدول الغنية مثلاً إلى ذلك، لأن لديهم سبلاً أخرى للتعامل مع سنوات كهولتهم كالضمان الاجتماعي والأرصدة المتبادلة وبرامج التقاعد والتأمين الصحي العام أو الخاص، ولذلك تظل أنجح السياسات السكانية هي التي تجعل إنجاب عدد كبير من الأطفال، ولاسيما الذكور غير ضروري، بسبب شبكات الضمان الاجتماعي الفعالة، والتنمية المالية التي تتيح الادخار على نحو مربح استعداداً للتقاعد، وهو ما سيؤدي أيضاً إلى الحد من التمييز ضد الإناث، وغيرها من النتائج الكارثية التي حدثت مثلاً في المجتمع الصيني، بسبب التدخل القسري للدولة في سياسات تنظيم الأسرة.
رغم أنهما ظلا يعملان مع الفقراء على مدى أكثر من 15 سنة عبر خمس قارات، لا يدعي مؤلفا كتاب «اقتصاد الفقراء» قدرتهما على تقديم وصفات جاهزة للقضاء على الفقر، بل ينبهان مراراً إلى أهمية التوقف عن إسقاط تصورات مسبقة على حياة الفقراء دون فهمها، وهو ما يجعل الكثيرين يرون عالم الفقراء بوصفه أرضاً للفرص المفقودة، ويتساءلون عن سر اتخاذهم لقرارات قد لا تغير حياتهم للأفضل، متناسين أن الفقراء ربما كانوا أكثر ارتياباً في حقيقة الفرص المفترضة وما يمكن أن تحققه من تغيير جذري لحياتهم وثمن ذلك التغيير، لذلك يفضلون عيش اللحظة الآنية والاستمتاع بحياتهم قدر طاقتهم، والاحتفال كلما لزم الأمر.
في ضوء ذلك يمكن مثلاً فهم كثير من الاختيارات الغذائية للفقراء، التي تبدو خاطئة من الناحية الصحية والاقتصادية، لأن الفقراء حين يختارون غذاءهم، لا يختارونه لرخص أسعاره وقيمته الغذائية، بل لما له من مذاق طيب يهون عليهم مرارة الحياة، ولذلك يميلون للارتياب في الغرباء الذين يطلبون منهم أن يغيروا أنماطهم الغذائية لأنهم ببساطة يحبون ما يأكلونه، ولذلك مثلاً احتج فقراء إحدى ولايات الهند بقوة على أكبر مسؤولي الولاية، حين واجه أزمة ارتفاع أسعار الأرز بشكل حاد، بنصحه المواطنين بتقليل كميات الأرز وتناول كميات أكبر من الخضروات لتحسين صحتهم، فطارده المحتجون بأكاليل الخضروات أينما وجدوه.
في السياق نفسه، يخطئ الكثيرون في تحليل أسباب حرص الفقراء على اقتناء وسائل الترفيه، التي لا تتناسب مع ظروفهم المعيشية الصعبة، لأنهم لا يدركون حاجة الإنسان الأساسية لحياة ممتعة وأقل مللاً، وهو ما فسر للباحثين انخفاض الإنفاق على الغذاء في الهند في المناطق النائية، التي بات يصلها الإرسال التلفزيوني، لتمويل شراء أجهزة تلفزيون ولو بالاستدانة. أما في مدينة أودايبور الهندية التي لا يمتلك فيها أحد تقريباً جهاز تلفزيون، ينفق الفقراء المعدمون ما قيمته 14 في المئة من ميزانياتهم على الأعياد، التي تشمل مناسبات دنيوية ودينية تساعد على البهجة والتسلية، وهو ما يحدث على النقيض في نيكاراغوا، حيث يمتلك 56 في المئة من الأسر الريفية الفقيرة جهاز راديو، ويمتلك 21 في المئة جهاز تلفزيون، في حين ينفق عدد قليل جداً من الأسر أي شيء على الأعياد، وهو ما جعل الباحثين يتفهمان لماذا قال لهما رجل يعيش في قرية نائية في المغرب أن التلفزيون أهم لديه من الطعام، لأن الحياة في قريته تبعث على الملل الشديد، ولذلك حرص على الاستدانة لشراء تلفزيون وطبق هوائي ومشغل أقراص دي في دي، مع أنه يحلم لأسرته بطعام أفضل وأوفر، وهو ما شاركه فيه فقراء في مناطق متفرقة من العالم، لأن الأشياء التي تجعل الحياة أقل مللاً تكتسب أولوية لدى الفقراء، وهو ما سبق أن لاحظه جورج أورويل في كتابه «الطريق إلى رصيف ويجان»، حين اكتشف بعد دراسته لحياة الفقراء، أنهم حين يقومون بتخفيض معاييرهم، لا يفعلون ذلك بالتخلي عن الكماليات والتركيز على الضروريات، بل يحدث العكس تماماً، ولذلك زاد استهلاك الكماليات الرخيصة، خلال ذلك العقد الذي ساده كساد اقتصادي غير مسبوق.
يشير الباحثان إلى مفارقة أنه كلما زاد المرء غنىً اتخذ الآخرون قرارات صائبة من أجله، وهو ما يحدث عكسه في ما يتعلق بالفقراء، الذين تثبت الدراسات أن آخر ما يحتاجونه من حكوماتهم هو جلب المعونات، التي ثبت أنها لم تحقق نمواً أسرع في الدول التي أدمنتها، بل يحتاجون إلى تحريك أهداف التغيير التي تتبناها الحكومات، حتى تصبح أقرب منالاً منهم، لأن قليلاً من الأمل يمكن أن يخلق دافعاً قوياً إلى التغيير، وهو ما لا يتطلب تغيير البنى الاجتماعية والسياسية بأكملها كما يدعي الكثيرون، لأن التجارب أثبتت أن التغييرات البسيطة التراكمية يمكن أن تحدث تأثيرات واسعة النطاق، فتتحول الحالات الميئوس منها أحياناً إلى معجزات صغيرة، ويتحول الفقراء بفعل القليل من الأمل إلى رواد أعمال، وهو ما يقدم الكتاب عليه نماذج مختلفة من أكثر دول العالم فقراً. لكن ذلك التغيير لن يحدث أبداً في ظل حكام فاسدين منعدمي الكفاءة، يتربحون من الفقر سياسياً حين يستغلونه لتهديد دول الغرب به، لضمان بقائهم أكثر على كراسيهم، ويتربحون من الفقر اقتصادياً، حين يستجلبون لمكافحته مساعدات ومعونات يتواصل نهبها من الذين لا يكفون عن لعن الفقراء واتهامهم بتخريب البلاد ووقف حالها، وهي اتهامات للأسف أكثر من يصدقها ويروج لها هم الفقراء أنفسهم.

ـ «اقتصاد الفقراء: إعادة نظر في أساليب محاربة الفقر» ـ أبهيجيت بانرجي وإستر دوفلو ـ ترجمة أنور الشامي ـ دار جامعة حمد بن خليفة للنشر

٭ كاتب مصري

«أنديرا هاتاو إنديري باتشاو»

بلال فضل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    لو انتقيت بشكل عشوائي الف فقير و منحت كل منهم عشرة الاف دولار ثم عدت اليهم بعد عام لوجدت ان معظمهم باتوا فقراء كما كانوا. وان القليل منهم من احسن استغلال المبلغ و خرج من حالة الفقر.
    السبب هو ان هؤلاء الفقراء لا يمكون القدرات الكافية لاستغلال الفرصة. و هذا بالفعل هو سبب فقرهم. و انهم كما رأى مؤلفا الكتاب يطورون امكانيات المتعة الوقتية بدلا من القدرات الذاتية على التنمية لان الاولى اسهل.
    المفتاح الرئيسي في رأيي هو التعليم ثم التعليم ثم التعليم…التعليم العام ثم التعليم النوعي ثم نوعية التعليم.. و السبب الرئيسي في عدم اعطاء التعليم الاولوية ان الانظمة المتسلطة على شعوبهم تعطي امنها و استمرارها الاولوية بل و ترى في انتشار التعليم تهديدا لوجودها. الا ترى كيف اثرت الامم الحرة و كيف تتراجع الامم ذات الانظمة المتسلطة؟؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية