قد يبدو للوهلة الاولى ان العقرب الرابع والمحذوف من الساعات والتقاويم هو اشبه بالعجلة الخامسة للسيارة، لا ضرورة له ولا دلالة.
والحقيقة ان الزمن التراجيدي او ما يوصف بالميتافيزيقي مقابل الوقت او الزمن الفيزيقي لا يخضع لأية تقاويم اولا لأنه نسبي، وثانيا لأنه داخلي، لهذا حاول روائيون في مقدمتهم ويليام فولكنر الخروج عن الزمن بمعناه التقليدي والرتيب بحيث يخضع تتابع الاحداث لايقاعات نفسية، وهذا ما عبّر عنه بوضوح لورانس داريل في رباعية الاسكندرية، يقول موضحا اسلوبه في الرواية قدر تعلقه بالزمن: اعرف ان نثري مزيج غريب ولكن جميع النثر المنتمي الى الاستمرارية الشعرية هو كذلك، فالحوادث لا تقع بشكل تتابعي لكنها تتجمع كالحياة الواقعية هنا وهناك، عابرة المسافات والحدود ورغم ان عبارة هيراقليطس الشهيرة وهي ان النهر لا يقطع مرتين قد كتبت قبل قرون، الا ان بلورة مفهوم الزمان ببعده التراجيدي تنسب الى الالماني هانز ميرهوف في عشرينات القرن العشرين، وفي لغتنا العربية ثمة عدة التباسات متعلقة بالزمن، منها الخلط بينه وبين الوقت كتقاويم متعارف عليها، واحيانا الخلط بين الدهر والابدية، وهو بالتالي خلط بين الزمن النفسي والزمن الموضوعي، واذا صدقنا ما قاله جيته عن عدد الثيمات او الموضوعات الكبرى للأدب عبر تاريخه فان موضوعة الزمن تتصدر القائمة، لأن هذه الموضوعة اجتذبت الفيلسوف والفنان التشكيلي والشاعر والنحّات، حيث لا انفكاك بين الموت والزمان، وكان التعامل الفني تحديدا مع الزمن تعبيرا عن تمرد بشري، فالانسان عابر وفان، لكن اشواقه لا تكل عن تحفيزه على البقاء من خلال تجليات وجودية اخرى خارج النطاق العضوي.
وما ترويه فرجينيا وولف وهي من رواد الكتابة التي تتمحور حول الزمن يقدم مثالا واضحا عن النسبية المضادة للزمن الموضوعي، تقول انها شاهدت في طفولتها من نافذة قطار امرأة تنشر الغسيل على الشرفة، ورغم ان المرأة انجزت عملها والغسيل جفّ وتم جمعه عن الحبل، الا ان تلك المرأة واصلت نشر غسيلها في ذاكرة فرجينيا وولف، وبقي الغسيل وسيبقى طريا ومبلولا الى الأبد، فهذه لحظة نادرة يتجمد عندها الزمن الذي لا يكف عن الجريان، وقد فعل ذلك كيتس عندما رأى غزالا مرسوما على اناء وهو يعدو قال انه سيظل يعدو الى الأبد ما لم ينكسر الاناء الذي رسم عليه، وربما لهذا السبب قال كيتس بأنه كتب اسمه على الماء، تعبيرا عن اللاجدوى. وثمة لحظة مماثلة لهذا الادراك في رواية داريل عن الاسكندرية حيث يقول الراوي بأنه سمع طفلة ميليسيا في المطبخ وهي تعبث بأوراق المخطوط الذي لم ينته منه، وحين حاول ان ينهرها عجز عن ذلك، لأن وعيه اصابه بالشّلل، فالطفلة تشارك الطبيعة ذاتها لا مبالاتها بالفن اذ يكفي زلزال واحد للقضاء على هذا المنجز البشري.
في رواية فولكنر الصخب والعنف يتم التعبير عن العصيان على الزمن من خلال خلع عقارب الساعة، وهذا ما نجده في مجال الرسم عند سيزان، وبدرجة أدق عند سلفادور دالي، حيث تبدو ساعاته ممطوطة ومطوية كما لو انها ثياب على حبل غسيل وما رسمه دالي يذكرنا باحدى قصائد الشاعر خليل حاوي، عن الزمن البطيء والممطوط ايضا:
وعرفت كيف تمط ارجلها الدقائق
كيف تجمد تستحيل الى عصور
هذي العقارب لا تدور
وقد يرى البعض ان الشكوى من الزمان قديمة ومتكررة منذ امرىء القيس الذي وصف الليل ببحر ارخى سدوله، لكن الشعر لا يختزل في الدلالات فقط بل في القدرة على التصوير وتحقيق ما يسميه اليوت المعادل الموضوعي، وهو الذي كما رأى غاب عن مسرحية هاملت لشكسبير.
* * * * * * * * *
العقرب الرابع غير مرئي، وكأنه البعد الرابع الذي يتم التعامل معه بالخيال او الحدس، وهناك موقف روائي يختصر المسألة كلها، فالبطل يضيع مفتاح ساعة جدّه القديمة، يوم كانت الساعات تدار بمفاتيح من خارجها وحين يعلن عن مكافأة بدت كبيرة بمقياس عصره استغرب الناس ومنهم من قال له انه يستطيع شراء عدة ساعات بهذا المبلغ المرصود لمن يعثر على المفتاح ….. عندئذ اجابهم قائلا : هذا هو الفارق بيننا، فالمفتاح الذي ضاع مني ليس مفتاح ساعة، انه مفتاح الزّمان كله !
وفي احدى قصائد مالارميه يجترح الخيال والحدس معا زمنا آخر، لا يخضع للتقاويم، ولا يستشعره الا من ذهب بعيدا، او حاول ان يقطع نهر هيراقليطس مرتين، يقول مالارميه ان حالتنا كبشر تشبه حالة مريض يعاني من غيبوبة متقطّعة في مصح بعيد، فما يسمعه من أصوات مبهمة بالنسبة اليه هو مجرد اصداء لأصوات اخرى تعيش في الأبدية.
لكن حال من يريد قطع النهر مرتين سواء كان شاعرا او روائيا او رساما يصدق عليه ما قاله سارتر في دراسته عن بودلير، قال ان الانسان العادي ينظر الى شجرة او جدار او اي مشهد فيقول اني اراه، لكن بودلير حاول ان يرى نفسه وهو ينظر الى تلك المشاهد فكانت سيرة حياته قصة هذا الفشل، فنحن اسرى زمن لا يعبأ بتقاويمنا ولا يتقطع كما هو الحال في ساعاتنا وعقاربها، لهذا فالخروج منه اشبه بقيامة مٌتخيّلة لا مكان لها في هذا العالم!
* * * * * * * *
كان الصديق الراحل جبرا ابراهيم جبرا يردد كثيرا مقطعا من قصيدة لتوماس هاردي، يقول فيه ‘ كلما نظرت الى المرآة ورأيت بشرتي المتغضنة تمنيت لو ان الله جعل قلبي ايضا يتغضّن، فالسيف يدوم اكثر من غمده ‘ وهو ما كان ابن عربي يعبر عنه وهو يجلد قدميه ليلا، لأن دابة الجسد لم تعد قادرة على حمل الرّوح. وقد يتصور البعض ان موضوعة الزمن فلسفية، وبها قدر عال من التجريد، لكن الشعراء كانوا على الدوام الأكثر والأدق تعبيرا عن معاناة الزمن، وهناك اثنان من الفلاسفة الاكثر شغفا بموضوعة الزمن في بعده النفسي او التراجيدي احدهما هنري برغسون الذي قال ما من احد كالشاعر يحس بالزمن .
اما عاستون باشلار مؤلف جماليات المكان فقد نصح الفلاسفة بطرق ابواب الشعراء اذا تعلق الأمر بالزمن ومكابداته. لكن اي شعر وأي شعراء ؟
* * * * * *
البيت الاشهر في قصيدة زهير بن ابي سلمى والذي يردده البعض منتزعا من سياقه هو ‘ سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش ثمانين حولا لا ابالك يسأم ‘ فالشاعر بموقفه من الزمن لم يسأم الحياة نفسها بل تكاليفها وهي ليست بالمعنى المادي، فتكاليف الحياة هي الوعي بها وبما تحاصرنا به من شرور وضغائن، وهذا بحد ذاته بعد اجتماعي للزمن، لا يطاول التراجيديا، لكنه يعي أعباء الزمن وينوء بحمولته، تماما كما ناء جوبتر بالصخرة التي يحملها على ظهره وهو يقطع النهر، او كما ناء سيزيف بقدره العبثي !
خيري منصور
يعطيك ثقافة حقيقة في سطور