انشغل بواز شوشان في كتابه «شعرية التاريخ الإسلامي تفكيك تاريخ الطبري» 2016 بالتدليل الإجرائي على ما كان قد أكده في مهاد الكتاب النظري، وملخصه عدّ التواريخ عبارة عن مسرودات حكائية تحوي حبكات مفردة ومركبة ومعقدة. وبما يجعل تدوين الماضي عملية تنطوي على سردنة الأحداث لا توثيقيتها لتبدو الحقيقة متداخلة بالتخييل الذي يتخلل الوقائع.
وهذا ما حرص شوشان على انتهاجه وأعلن عنه قائلا:» اهتمامي سيتركز على التأثير الملتبس الذي تصنعه الحكايات التاريخية أو على التأثير الذي ينتج على الضد من نوايا الراوي»، ولقد وقف مزامنا بين ميدانين لكل منهما حدوده ومواضعاته أولهما التاريخ وثانيهما السرد.
وعلى الرغم من أن تخصص شوشان أقرب إلى التاريخ منه الى السرد إلا إنه استطاع توظيف السرد ليكون في متناول التأرخة موظفا نصوص التاريخ لأجل أن يمثل بها على السردية. ولم تكن هذه المهمة باليسيرة على الإطلاق لا لصعوبة دمج الحقلين معا وانما لتغاير الاشتغالين التاريخي والسردي، ولذلك تسلح شوشان بالمعرفة التاريخية جنبا الى جنب تزوده بالنظرية الأدبية، منتهجا الشعرية مذهبا وأداة في تحليل الوقائع التاريخية التي كتبها راوة مهرة، حاولوا جعل الحدث التاريخي قابلا للتصديق ومتمتعا بالمعقولية عبر توظيف التحبيك الذي يبدو ـ كما يحاول شوشان إثباته ـ وكأنه معروف عندهم بمساراته الجمالية ومدياته التخييلية. ولم تكن مهمة شوشان معرفة صدق الوقائع المحكية عن كذبها وإنما كانت مهمته تتبع سردية النص التاريخي عند الطبري ورواته وعلى وفق قانون الاحتمال الأرسطي.
ومعلوم أن شعرية أرسطو نفسها كانت قد اعترفت بأن حدود الأدب عموما والشعر تحديدا هي غير حدود التاريخ ومهمة الناقد هي إعلاء شأن الشعرية وتنحية التاريخية جانبا، وهذا ما جاءت لتؤكده الحداثة الغربية والنقد الجديد في مناهج نصية تنطلق من نظريات أدبية لها مناهجها ومنها الشعرية التي هي، وبحسب تزفتان تودوروف، مجموع البنيات اللفظية التي تعمل في كل عمل أدبي ليغدو هم الناقد هو تلمس الأبنية أفقية وشاقولية واصطياد الأنساق بمستوياتها المتعددة واتجاهاتها المختلفة وضمن قوالب أجناسية متطورة.
والسؤال هنا لماذا لم تقتصر منهجية شوشان على الشعرية ما دامت منهجا يسمح بالتداخل الأجناسي بين الأدب والتاريخ ويعترف بدور القارئ الذي هو الطرف المكمل للفاعلية الإبداعية؟ لعل كون شوشان ليس ناقدا أدبيا هو ما جعله لا يرى في الشعرية منهجا كافيا للتحري عما تقدم، لذلك انتهج التفكيكية متلافيا بذلك قصوره في الشعرية ولو كان شوشان ناقدا متمرسا في حقل التنظير والإجراء لما وقع في هذه الازدواجية المنهجية وهو يسعى إلى الخروج بنتائج أفضل.
ولا شك أن نظرة المؤرخ غير المتمرس في استخدام النظرية النقدية هي شبيهة بنظرة الناقد غير المتمرس في استعمال النظريات التاريخية لكن الأدب والتاريخ ووفقا للشعرية ليسا ضدين كضدية الصدق والكذب، بل هما اتصالان في الوسائل ولكن ليس في الغايات. وقد دعمت نظريات السردية في مرحلة ما بعد الحداثة هذا التوجه حين عدت التاريخ أدبا انطلاقا من منظومة مفاهيمية اجترحها منظرو هذه المرحلة. ولذلك انتهج شوشان النظرية السردية ممثلا على كتاب «تاريخ الطبري» أو «تاريخ الرسل والملوك» متعكزا على منظومة مرجعية غنية من مصادر غربية وعربية، مستلهما طروحات جينيت وبارت وغيرهما وهو بإزاء فحص البنية الشعرية للتاريخ. ولم تكن مقصدية التحري عن الصدق أو التخريب أو التصحيح تعنيه بقدر ما كانت تعنيه شعرية النص التاريخي بغية معرفة مخزوناته اللفظية والبلاغية وخباياه المتستر عليها أو المسكوت عنها.
ولقد استطاع شوشان المراهنة على أن تسريد التاريخ ليس فيه إعلاء للسرد، كما أن ارخنة السرد ليست نكوصا به إلى مرحلته الكلاسيكية أو استعادة لما كان قد تخطاه علم السرديات بنظرياته الحداثية وما بعد الحداثية. وأن البغية تمحيص الأطروحات التاريخية وجعلها درامية حية لا جامدة مع استبعاد الغايات الباحثة عن الكيفيات البنائية التي ربما تثبت الحقيقة عبر استجلاء الكشوفات التصحيحية أو استقصاء التأويلات التقويضية. وأن في هذا الفهم ما بعد الحداثي لتعالقية السرد بالتاريخ إفادة للتاريخ كونه سيتحرك بدرامية فلا يعود مجرد ماض مدون ومؤرشف، بل هو نابض بحيوية امتداده إلى الحاضر، أما إفادته للسرد فستكون في تعامله مع المعطيات التاريخية التي تتموضع في إطار مفاهيمي تخييلي لتتعدى ما هو سردي إلى ما وراء سردي أو ميتا سردي.
وما انطلاق شوشان من الفهم الأرسطي للمحاكاة، إلا بهدف التدليل على تسريد التاريخ فهو يرى الفعل الإبداعي فعل محاكاة يتم في صورة إبداعية تخييلية.
ولقد عوّل شوشان كثيرا في الفصل الأول الذي عنوانه (أساليب المحاكاة) على دراسة الطيب الهبري، ولعل ارتياح شوشان لتحصيلية الهبري، مردها وعي قصدي بأن التاريخ وبخاصة التاريخ الإسلامي في العصر الوسيط هو مجموعة من التفاسير والتأويلات وهذا ما سيتيح لشوشان أن يجد تناقضات أو تضادات داخل النصوص التاريخية المدونة التي لها أكثر من راو واحد ومن ثم يصبح ارتكاب الخطأ ممكنا من جهتين الأولى روايتها والثانية تأويليتها.
وقد ميّز شوشان بين نوعين من الكتابة مستقلين ولهما حدودهما الأول سردي ممثل برواية القصص الحقيقية وتأويليها والتعليق عليها، وهو ما يشكل الجزء الأكبر من تاريخ الطبري. والثاني تجسده أيديولوجيا المؤلف ومقاصده الأصلية.
وبهذين الاشتغالين الكتابيين تصبح المحاكاة هدف المرويات التاريخية العباسية التي تحاول أن تخبرنا بأن هذا هو ما حصل فعلا لتكون (كتابة الماضي أو تدوين التاريخ) بمثابة ادعاء أن المؤرخ يقول الحقيقة كون المحاكاة ليست نقل الواقع حرفيا، وإنما تجسيده بالتنقيح والتحوير بناء على ما يتمتع به المؤرخ الذي هو الطبري من مخيلة إبداعية. ولعل أهم أسلوب في المحاكاة اعتمده الطبري ـ بحسب شوشان ـ هو ما كان يستعمله من عبارات (كأنك شاهدت الحدث) أو (كأنك تنظر إليهم) التي يدخلها في داخل الحكاية التاريخية موهما القراء أن تاريخه هو شكل من أشكال نقل الواقع وأنه خال من التلاعب..
ولكن ماذا عن إمكانية أداء الطبري لفعل المحاكاة بالمفهوم الأفلاطوني، أعني نقل الحدث التاريخي باستنساخية تطابق الحدث تصويرا لا تمثيلا؟ ألا يكون احتمال هذا التوظيف واردا لاسيما أنه لا يتنافى مع فرضية التعاطي النصي مع الحدث التاريخي؟ وبذلك تكون نية المؤلف مبنية على مقصدية التجسيد لا الادعاء وكذلك التحقيق لا التلفيق.
إن شوشان في معالجته للمحاكاة الأرسطية في «تاريخ الطبري» لم يطرق المحاكاة كفعل دراماتيكي يقترن بمبدأ فكري لا يتجاوز المسؤولية الأخلاقية في فهم الوظائفية التوثيقية التي تنطوي عليها مهمة المؤرخ وهو يؤرشف لوقائع الماضي ويقيدها في شكل سجلات وصحائف تحفظ لكي تطلّع عليها الأجيال وهذا ما تغاضى شوشان عن التسليم به، وانشغل بدل ذلك بالمعطى الفني والجمالي لأن الغاية ليست تدوينا وأرشفة على المستوى البعيد إنما هي إنتاج كتابي وابتداع جمالي لا زمني وبهذا تتجاوز المحاكاة الأرسطية في بعدها اللازمني ووظائفيتها الجمالية المستديمة المحاكاة الأفلاطونية التي تظل زمنية بسبب اقترانها الأخلاقي بالواقع الإنساني لما هو قادم من أجيال بشرية.
ولأجل استبعاد المعطى الأخلاقي والتوكيد على المنحى الجمالي والسردي عمل شوشان على تفكيك النص عند الطبري باحثا عن أساليب المحاكاة مما كان الطبري أو رواته قد مارسوه، ليجد أنها لا تخرج عن عشرة أساليب وقف عندها ومثّل عليها في الفصل الأول من الكتاب موضع الرصد.. وأول أساليب المحاكاة هو (الوصف المفصل للأشياء) الذي به تتم عميلة تمثيل الحدث التاريخي عن ادعاء أو استظهار أو استحضار، وفق استراتيجية محاكاتية تصف الأشياء بحيوية وتفصيلية تجعل القارئ يقتنع بما يقرأ. ومما مثّل به على ذلك ما رواه الطبري عن الغنائم المستولى عليها في أيام الفتوحات والأخبار التي نقلت عن المال الذي كان للمأمون ووصف مسجد الكوفة ووصف مجلس المهدي ومخدع المنصور وأخيرا وصف سيف عمرو بن معديكرب.. والمحصلة التي يخرج بها شوشان من هذه الأمثلة أن الطبري استطاع بهذا الأسلوب المفصل إعطاء القارئ انطباعا وهميا بأن المتكلم قد شاهد تلك الأشياء فعلا..
ويدفعنا هذا التحصيل إلى التساؤل هل أن ذكر الطبري لتلك التفاصيل انتفاء لدوره كمؤرخ؟ بعبارة أدق أليس في التوصيف المفصل للأشياء توكيدا لوقائعية الحدث؟ وإذا لم يرد شوشان من الطبري أن يحاكي الحدث بكل تفاصيله فما الذي أراده منه اذن؟ هل أراد شوشان من الطبري أن ينقل الحدث مجردا من تفاصيله ليكون مجرد فعل حركي لا صلة له بزمنه الماضي ولا علاقة له بفاعله والفضاء الذي يحيط به؟
إن ما يشفع للتحصيل الذي توصل إليه شوشان في ما يخص الوصف المفصل للأشياء هو إيمانه بأن المحاكاة باستعمال أسلوب التفصيل تعني إخراج الواقعة من نطاقها الأرسطي وإلالقاء بها في منطقة الفهم الأفلاطوني كونها تحاول استنساخ الوقائع بحرفية تجعل للتفاصيل مكانا مهما ومميزا في الفعل الكتابي الإبداعي وإذا كان شوشان قاصدا المحاكاة باللامحاكاة فإن إمكانية أن يقصد الطبري المحاكاة كمحاكاة، تظل أمرا محتملا وافتراضا قائما بلا مراء.
نادية هناوي