في زيارتي الأخيرة لمدينة بورتسودان التي جرت في فبراير/شباط الماضي، عثرت في خزانة خشبية قديمة كنت أملكها في بيت والدي من ضمن ما عثرت عليه من أشياء، على ديوان شعر يخصني مكتوب بالعامية ومنسوخ بخط اليد ومصور بكآبة شديدة كانت تتبع التصوير في الماضي قبل اكتشاف التقنيات الحديثة، لكن يمكن قراءته بكل سهولة، حيث اجتهد الخطاط الذي لا أذكر من كان في جعل الخط جميلا وواضحا.
لقد تذكرت على الفور أن ذلك الديوان الصغير كان جزءا من محاولاتي المبكرة لولوج منطقة الإبداع، قبل أن أتسلح جيدا بالقراءة المكثفة وفيه أغنيات بعضها رددها مغنون في مدينة بورتسودان، وأخرى لم يستطع أحد أن يلحنها لصعوبة المفردات، وكان واضحا أنني كنت منذ بداياتي مغرما بالصورة الشعرية الغريبة، ووظفت أشياء كثيرة بعيدة عن البساطة في تلك الأغنيات التي ينبغي أن تكون أقل تعقيدا وتلامس الحس العام للناس بمختلف توجهاتهم ودرجات تعليمهم وثقافتهم، وأظن أن هذا هو السبب في عدم تحولي إلى شاعر جماهيري في ذلك الزمان وانحصار أغنياتي في نطاق ضيق يرددها المغنون في احتفلات خاصة، أو يرددونها لشهور معدودة وينسونها بعد ذلك، ويعودون للبحث عن البساطة.
حقيقة على الرغم مما ذكرته عن صعوبة الأغنيات وتعقيدها، إلا أن ثمة ذكريات عديدة كانت تتبعها ذكريات معظمها مزعج وحزين، لكن تظل هي تلك الذكريات التي يستعيدها الإنسان كلما اقترب من أسبابها، وكان الديوان العامي الصغير الذي يحمل اسم «ارتعاشات»، سببا كافيا لأتذكر بما عثرت فيه من أغنيات قديمة بعض الأشياء.
كانت ثمة أغنية اسمها «جنون الأرصفة» أغنية حب بالطبع، وحاولت تفخيمها وملأها بالبكاء العاطفي وربطها بالأرصفة والمدينة والليل ومفردات أخرى كثيرة كانت وما تزال منتشرة في الغناء العربي، وأعتقد جازما ألا أغنية تخلو من البكاء إلا نادرا، ولا أغنية تخلو من مفردة الليل الذي يبدو بالفعل مساندا كبيرا للأغنيات وداعما أو صدرا واسعا للبكاء.
لقد كتبت جنون الأرصفة تلك وأنا طالب في مصر، ولا أذكر مناسبتها، ومن الممكن أن تكون بلا مناسبة ونحن نعرف أن الشعر في كثير من الأحيان يكتب هكذا بالقريحة، ولا يحتاج لمحرك كبير أو صغير حتى ينهمر. لقد كنت فرحا بتلك القصيدة ورددتها كثيرا في أمسيات ثقافية ومنتديات طلابية، وحصدت بها شيئا من المعجبين الذين كانوا يساندون مراهقة الإبداع في ذلك الزمان كانوا يشبهون أولئك الذين يساندون المراهقة الإبداعية نفسها في هذا الزمن بكلمات مثل: جميل ورائع ومدهش، فقط مساندو اليوم باتوا افتراضيين لا يمكن أن تجدهم أمامك أو تصافحهم هم يرمون بالكذب والمراوغة من خلف الكيبورد ويختفون ليعودوا من جديد وهكذا.
حين عدت لبورتسودان كانت «جنون الأرصفة» ما تزال من القصائد التي أحبها وأرددها في سري، على الرغم من أنني كتبت قصائد عديدة بالفصحى نشرتها في مجلات ثقافية وعرفني الناس شاعرا في المقاهي المصرية، وأيضا كتبت ونشرت روايتي الأولى «كرمكول» حملت تلك القصيدة وذهبت بها إلى إمام، ذلك المغني الجميل الصوت الذي غنى لي مرة قصيدة لم تنجح واختفت من تشنجاته الغنائية وحفلاته العامة، أعطيته «جنون الأرصفة» وكان يعمل في ورشة للنجارة في حي بعيد يسكنه ودائما ما تجد الخشب مبعثرا والطاولات والكراسي غير مكتملة الأرجل والخزائن تنتظر أبوابها أو أقفالها، وفوق تلك الفوضى الخشبية تجد القصائد مبعثرة وآلة العود نظيفة موزونة الأوتار موضوعة في ركن. قرأت له القصيدة وأحسست بأنه طرب لها، طلب مني أن أذهب إلى مقهى قريب لأحضر شايا لي وفعلت وحين عدت أسمعني «جنون الأرصفة» بلحن راق عظيم يشبه الكلمات كثيرا، وكانت سعادة كبيرة أن ذلك حدث لتصبح القصيدة المعقدة المليئة بالصور أغنية راسخة بين أغنياته.
في الديوان المخطوط باليد عثرت على القصيدة إذن، لم تداهمني أي ذكريات بخصوص ملابسات كتابتها ولا تلحينها وفقط تذكرت أن إمام المغني الرائع الصوت مات منذ سنوات طويلة، مات ولم أعرف بموته، ذلك أنني لم أكن موجودا في المدينة.
قصيدة «رأس السنة» أيضا أغنية عثرت عليها في الدفتر القديم، إنها قصيدة كتبتها بلا أي إيحاء عاطفي أو موقف حقيقي استدعى كتابتها، هي عن فتاة جميلة في احتفال رأس السنة لحنها محمد حمدتو وكان ملحنا بارعا يقيم في الساحل آنذاك، ثم استقر في العاصمة واشتهر بتميز ألحانه وأذكر أن بدايتها كانت: عام سعيد.. عام سعيد التي أصبحت بعد أن رددت الأغنية في المدينة من العبارات الرائجة يستخدمها الناس بسبب وبلا سبب.
هنا كانت الذكريات مبتسمة بعكس ذكريات «جنون الأرصفة» وكنت كتبتها وأنا طالب ثانوي قبل أن أسافر للخارج، ذكريات عن فتيات أردن أن يكن الفتاة الموصوفة في رأس السنة بأي طريقة عن رجال أرادوا قصائد تصف جمال نساء حقيقيات أو متخيلات لا أدري، وعن إسماعيل ذلك الشاب الذي عثر عليّ في موقف الباصات أول الليل أنتظر الباص الذاهب إلى حينا. فأقسم أن يقلني إلى الحي بسيارة أجرة إكراما لي على تلك القصيدة، وبالفعل ركبنا إلى الحي وحين وصلنا إلى بدايته ترجل إسماعيل عن العربة وذهب ليتركني أنقب في جيوبي باحثا عن نقود أدفعها لعربة أجرة لم أكن من استأجرها.
٭ كاتب سوداني
أمير تاج السر