لم يكن الفارس الشجاع أحمد المصري وحده الذي تعرض لتجاهل دوره المشرف في مواجهة جمال عبد الناصر، والمطالبة بالديمقراطية وإعادة الحياة النيابية وعودة الجيش إلى ثكناته، فقد تعرض للتجاهل والتهميش أيضا زملاؤه في سلاح الفرسان، مثلما تعرضوا للتنكيل والبطش بعد استحواذ عبد الناصر على السلطة، وهو مصير نجا منه زميلهم في السلاح خالد محيي الدين، لصداقته بعبد الناصر، ولكونه عضواً في مجلس قيادة الثورة، وربما لذلك حرص خالد على إنصاف زملائهم برواية تفاصيل مواجهتهم مع عبد الناصر في (اجتماع الميس الأخضر)، الذي لم يستغلوا فيه انفرادهم بعبد الناصر للفتك به، كما رفضوا إعلان موقفهم خارج نطاق الجيش وإعلان تمرد مسلح، ليس فقط خوفاً على البلاد، ورفضاً لإراقة الدماء، بل لرفضهم المبدئي لاشتغال كل من يرتدي الزي العسكري بالسياسة، أياً كانت دوافعه ونواياه.
كان أحمد المصري من أوائل من انضموا إلى تنظيم الضباط الأحرار في سلاح الفرسان، وساهمت شخصيته القيادية في تعزيز قوة التنظيم، ولأنه كان مؤمناً بأن الديمقراطية هي أفضل سبيل لكي تقوم الثورة بخدمة مصر، فقد أعلن مع زملائه في السلاح رفضهم لفكرة مد الفترة الانتقالية التي أعلن عنها بعد استقالة محمد نجيب، التي أعقبت احتدام خلافاته مع عبد الناصر وزملائه، ولكي يوصلوا وجهة نظرهم إلى قيادة الثورة، أرسلوا وفداً من ثمانية ضباط هم: أحمد المصري وأحمد سامي ترك وأحمد إبراهيم حمودة ومحمود حجازي وفاروق عزت الأنصاري وعبد الفتاح علي أحمد وفتحي الناقة وعبد الله فهمي، ليلمسوا حين دخولهم إلى قاعة الاجتماعات المحتشدة، وجود مواقف متشددة لدى زملائهم من ضباط الأسلحة الأخرى، وصلت إلى حد المطالبة بقتل نجيب أو اعتقاله.
لم يتأثر أحمد المصري بما رآه، وألقى في وجه قادة الثورة وأنصارهم الغاضبين كلمة تاريخية، أشار فيها إلى ما تعانيه سوريا من لعنة الانقلابات، وأهمية تجنيب مصر الوقوع في ذلك، مؤكداً أنه «لا مخرج لنا إلا الديمقراطية، التي ستحمينا من مثل هذه المواقف الصعبة والانقلابات العسكرية»، ومشدداً على أهمية التوافق بين نجيب ومجلس الثورة لفترة «نستطيع أن نبني فيها أسس حكم ديمقراطي ونيابي قائم على إطلاق الحريات، وتعدد الأحزاب، وحرية الصحافة»، ومعلناً استعداد ضباط الفرسان للتوسط لدى نجيب، وحين صرخ جمال سالم فيه: «أنت واهم يا حضرة الضابط»، أكد المصري على أهمية المحاولة لإنقاذ الحياة الدستورية والنيابية، مضيفاً: «إذا كان رأينا لا يعجبكم فليعد ضباط مجلس الثورة إلى الجيش، وتتشكل منهم قيادة للقوات المسلحة، ويتركوا الحكم لنجيب ليرأس وزارة مدنية تحدد لهم فترة زمنية لإعادة الدستور والحياة النيابية، وتكون لكم كقيادة للجيش سلطة رقابية خلال فترة الانتقال».
لم يجد أحمد المصري من يناقش رأيه بهدوء، لتتعالى أصوات الشتائم التي تتهكم على الدستور والديمقراطية، وترتفع أصوات تقول كما يروي خالد محيي الدين: «هذا الشعب الجاهل لا تصلح له الديمقراطية، هذا الشعب الذي كان يبيع أصواته في الانتخابات تريدون أن تعطوه الفرصة ليبيع أصواته من جديد؟». وبعد مشادات كلامية انسحب ضباط الفرسان في الثانية والنصف من صباح 25 فبراير/شباط 1954 بعد أن تلقوا وعداً قاطعاً بعدم صدور أي قرار إلا بعد التشاور معهم، وهو ما لم يتم الالتزام به حين أعلن صلاح سالم بيان قبول استقالة نجيب، وقام بمهاجمته في الإذاعة، فثار ضباط الفرسان وتجمعت أعداد كبيرة منهم ووجهوا اللوم لمندوبيهم لأنهم صدقوا ما قيل لهم، ولجأ مجلس قيادة الثورة إلى عضوه المنتمى لسلاح الفرسان حسين الشافعي لتهدئة زملائه، ففشل بعد أن انقلبت مناقشاته معهم إلى محاسبة قاسية لتصرفات وسلوك أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتم الإعداد لاجتماع ينعقد مساء الجمعة 25 فبراير في ميس الآلي الثاني المدرع المعروف باسم (الميس الأخضر) لمطالبة الضباط الأحرار بمحاسبة أعضاء مجلس قيادة الثورة.
بدأ أحمد المصري فعاليات اجتماع الفرسان بالمطالبة بتحقيق الديمقراطية والحياة النيابية وحرية الصحافة وحرية تعدد الأحزاب، وطالب بإلغاء الترقيات الاستثنائية في الجيش والعودة إلى الأقدمية المطلقة، ليعود عبد الحكيم عامر إلى رتبة الصاغ ويترك منصب القائد العام، فحظيت المطالب بموافقة إجماعية من الحاضرين الذين طالبوا بعودة محمد نجيب رئيساً للجمهورية، ليفاجأ المصري بضابط يبلغه أن جمال عبد الناصر يقف بعربته خارج القشلاق، بعد منعه من الدخول، وكان الضابط عبد الفتاح علي أحمد قد أبلغه بالاجتماع، فسمح المصري وزملاؤه لعبد الناصر بالدخول، ليدخل محاطاً بحشد من الحرس الخاص وضباط المخابرات، فيثير ذلك غضب الفرسان الذين طلبوا منه إخراج جميع من دخلوا معه، إذا كان قد أتى للمناقشة، وليس لتحديد أشخاص معارضيه واعتقالهم، فطلب عبد الناصر بذكاء من مرافقيه الخروج، وبدأ كلامه مع الضباط بسؤالهم: أولا وقبل كل شيء هل تثقون فيّ، ليفاجأ بردهم المتحدي: هذا يتوقف على ما ستقول.
لم يتوقع عبد الناصر أن تتحول المناقشة إلى جلسة استجواب لتصرفات زملائه في القيادة مثل، صلاح وجمال سالم، والحديث عن المصروفات السرية التي تُنفق بلا رقيب، وتصرفات العديد من ضباط الصف الثاني التي تُحسب على الثورة والجيش كله، وعمليات الإثراء غير المشروع وما قيل عن اختلاس بعض أموال ومقتنيات أسرة محمد علي، وحين حاول عبد الناصر الخروج من المأزق بتحدي من ينسب إلى شخصه أي تصرف غير نزيه، رد عليه أحمد المصري: لكنك مسؤول عن كل تصرف خاطئ يرتكبه أي واحد منهم. ولكي لا يبتعد النقاش عن قضية الحريات والحياة النيابية، وقف محمود حجازي لينبه إلى أنه لا يمكن وجود محاسبة في ظل أوضاع بعيدة عن الحرية، وحين سأله عبد الناصر بعصبية: «من أعطاكم حق تمثيل الشعب»، ذكّره حجازي بحدة بأن الدستور موقوف والبرلمان معطل والحريات مهدرة والصحافة تخضع للرقابة، ومجلس الثورة ينفرد بالسلطة ولا يتشاور حتى مع الضباط الذين صنعوا الثورة، «وهذا يعني أننا في الطريق إلى ديكتاتورية عسكرية».
ومع أن عبد الناصر كان يتملق الشعب ليل نهار في تصريحاته، إلا أنه برر موقفه المطالب بمد الفترة الانتقالية بأن «شعبنا لا يستطيع تقدير مصلحته الحقيقية بسرعة، ولا يمكنه تحمل مسؤولية الحرية، وقد سبق للإقطاعيين أن اشتروا أصوات الناخبين، والشعب الذي لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية الحرية، لا يمكنه أن يستمتع بالحرية»، فواجهته ردود ترفض الوصاية على الشعب «لأن الحرية هي السبيل الوحيد لتعليم الشعب كيفية ممارستها، ولا يمكن الحجر على الناس بحجة أنهم ليسوا أكفاء للاستمتاع بالحرية». وكما يروي خالد محيي الدين اعتماداً على محاضر الاجتماع، فقد تعالت عند هذه النقطة بالذات أصوات هدير دبابات، ففزع عبد الناصر وسقطت سيجارته من يده، ونظر متسائلاً إلى أحمد المصري الذي قال له إنها دبابات عائدة من خدمة الطوارئ «وأرجوك أن تطمئن تماماً فأنت هنا في بيتك»، فأشعل عبد الناصر سيجارة جديدة، ورغم أن المصري كان صادقاً إلا أن عبد الناصر ظل يتصور أنها كانت محاولة من الفرسان لتهديده، «وظل يحفظها في نفسه لفترة طويلة»، حتى جاءته فرصة الانتقام ممن عارضوه في تلك الفترة، وعلى رأسهم أحمد المصري وخالد محيي الدين.
وللحديث بقية الخميس المقبل بإذن الله.
…
ـ «والآن أتكلم» ـ خالد محيي الدين ـ مركز الأهرام للدراسات والنشر
٭ كاتب مصري
بلال فضل
و قد قيل فى الاثر…… ” التاريخ يعيد نفسه “…..
يقول أديب العرب… الجاحظ فى كتاب الحيوان…. ” المعرفة كلها بصر و الجهل كله عمى و العمى كله شين و نقص و الاستبانة كلها خير و فضل “
ابدعت يا ابن الجاحظ وستكون اخبار عام 2038 فوز السيد الرئيس بولايه مدى الحياه(السيسي)