ظل الأمريكيون يمارسون لعبة مزدوجة مع إيران في العراق، فقد كانوا على قناعة واضحة، بأن الفاعلين السياسيين الشيعة، لهم علاقاتهم الاستراتيجية مع إيران، وهي علاقات لا يمكن المساس بها! بعد ان اقتنعوا، مع تصاعد المقاومة ذات الهوية السنية ضد وجودهم في العراق بعد العام 2003، أنه ليس من مصلحتهم الدخول في مواجهة مع الفاعلين السياسيين الجدد بشأن العلاقة مع إيران، وأنه لا بد من تحييدهم. هكذا وجدنا «عقلانية» أمريكية غير مسبوقة، في التعاطي مع «التدخلات» الإيرانية «التكتيكية» في العراق والتي تدعم الجماعات الشيعية المعارضة للوجود الأمريكي.
وبدت اللحظة الأكثر رمزية في هذه اللعبة المزدوجة، حين تواطأ الأمريكيون مع القرار الإيراني الصريح بتأييد التجديد لرئيس مجلس الوزراء نوري المالكي لولاية ثانية في العام 2010، وقد كان سبب التواطؤ هنا هو ضمان «الهدوء الهش» في العراق لتأمين انسحابهم المقرر، حينذاك، في نهاية العام 2011. وتشكل موقف الإيرانيين هذا تجاه المالكي بعد ان اقتنعوا أنه، وان لم يكن حتى تلك اللحظة رجلهم الحقيقي في العراق، قد أصبح الرجل الأقوى للحفاظ على هيمنة الفاعل الشيعي على الدولة في العراق، وهي الهيمنة التي تصب في النهاية في صالح المشروع الإيراني. وقد أثبتت الوقائع اللاحقة، تحديدا بعد بداية الثورة السورية، أن القراءة الإيرانية للمشهد العراقي كانت دقيقة إلى حد بعيد.
بعد دخول تنظيم الدولة/ داعش إلى الموصل، استمرت اللعبة المزدوجة الأمريكية تجاه إيران في العراق، ففي حين أبعدت أمريكا إيران عن التحالف الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة داعش واتهمت المجموعات المسلحة الموجودة على الارض بانها تمثل المصالح الإيرانية في العراق، تغاضت عن الدور الإيراني في هذه المواجهة الذي بدأ يأخذ شكلا تصاعديا على الأرض مع تحول المجموعات العقائدية التي تؤمن بمقولة الولاية العامة المطلقة للفقيه (ولاية الفقيه) إلى قوة فاعلة في هذه الحرب. بل انهم وفروا لهذه المجموعات غطاء جويا وأسلحة حديثة فضلا عن المعلومات الاستخبارية.
ولم يتغير الأمر كثيرا مع وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، فعلى الرغم من الخطاب التصعيدي ضد إيران، ومحاولات الربط بين الملف النووي بـ «الخطر الذي تشكله إيران على المنطقة بأكملها» (هذه العبارة وردت في مكالمة هاتفية بين الرئيس ترامب ورئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي)، لم تكن ثمة مؤشرات جدية على الأرض تشي بتغيير قواعد اللعبة الأمريكية في العراق.
اليوم، ومع قرار ترامب بالانسحاب الاحادي من الاتفاق النووي مع إيران، فقد انتهت هذه اللعبة التي حكمت السياسة الأمريكية في العراق! وهذا التطور سيفرض على الأطراف الثلاثة المشتبكة: العراق والولايات المتحدة الأمريكية وإيران، مواقف جديدة تختلف عن المواقف التي اعتمدتها الأطراف الثلاثة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية؛ فالقوى السياسية العراقية المتعاقبة التي تأقلمت مع الازدواجية الأمريكيه تجاه التدخل الإيراني في العراق، لم يعد لديها خيار سوى تحديد موقفها الصريح من هذه المواجهة، خاصة وان توقيت هذا الإعلان سيفرض هذا الموضوع على سياق تشكيل الحكومة العراقية القادمة التي ستترتب على نتائج انتخابات يوم 12 أيار/ مايو. وبالتالي سيفرض على أي رئيس وزراء قادم أن يعلن موقفا صريحا ومعلنا من هذه المواجهة، إذا ما أراد أن يحظى بالدعم الأمريكي الضروري لضمان هذا الموقع! بالمقابل ستقوم إيران باستخدام العراق كأداة في هذا الصراع؛ أي الضغط على الولايات المتحدة، من خلال استخدام أدواتها في العراق لمنع نجاح أي محاولة لإخراج العراق من العباءة الإيرانية وإعادة موضعته في سياق الاستقطاب وسياسة الخنادق التي تحكم المنطقة. وقد وجدنا مقدمات صريحة لذلك في الحملة التي جوبه بها التقارب السعودي العراقي الأخير.
ومن ثم يبدو واضحا ان العراق سيشهد على المدى القصير صراعا شيعيا شيعيا، في سياق تصاعد نزعة وطنية شيعية يدعمها المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني، تحاول إعادة صياغة تراتبيات الهوية الشيعية داخل العراق لتكون الهوية العراقية في المقدمة. وهذه النزعة ستحفز بالضرورة الهويات الأخرى (السنية والكردية) للمشاركة الفاعلة، على المدى البعيد، في صياغة هوية وطنية عراقية، إذا ما نجحت محاولات إصلاح النظام السياسي بما يضمن مشاركة الجميع في السلطة بشكل حقيقي.
إن التحدي الرئيسي الذي يواجه العراق في المرحلة القادمة لا ينحصر فقط بتداعيات المواجهة الأمريكية الإيرانية حوله، والتي يمكن لها ان تحوله إلى ساحة متقدمة للصراع، وإنما يستدعي اعترافا من الجميع بأن مرحلة ما بعد تنظيم الدولة تتطلب معالجة المقدمات التي ساهمت في انتاج ظاهرة داعش في المقام الأول، وتستدعي ايضا محاولة إبعاد العراق عن الاستقطاب الذي يحكم المنطقة، والذي يكرس الانقسام المجتمعي والصراع السياسي داخله. وهذا يفرض على الطبقة السياسية ايضا أن تغادر طريقتها التقليدية التي تحكم آليات تشكيل الحكومة، والتي كانت تعتمد على سياسة «الصفقات» الحزبية والشخصية، وسياسة «تدوير الأزمات» وليس حلها! واستبدال ذلك بكتلة عابرة للهويات الفرعية قادرة على الوصول إلى توافق سياسي ينتج رؤية سياسية تستطيع صياغة خارطة طريق متفقا عليها بين الأطراف جميعا لحل الأزمة السياسية في العراق.
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي