لم تتطور «ليلة الصواريخ» قبل أربعة أيام إلى حرب ساخنة متمادية بين «إسرائيل» وسوريا. لماذا؟ لأن «إسرائيل» تتفادى توسيع الاشتباك لسببين: الأول، لأن «حربها الناعمة» نسبياً في سوريا وعليها ما زالت ناشطة بواسطة «الوكلاء» ولا رغبة، وربما لا قدرة، لها على توسيعها في هذه الآونة. الثاني، لأن عدوها الأول المستهدّف في الوقت الحاضر هو إيران، ولا مصلحة لها في أن تستغني عن خدمات «الوكلاء» لئلا تقع في حمأة مواجهة مبكرة مع «الأصلاء».
«الوكلاء» مرتزقة جرى ويجري تجنيدهم من كل أصقاع الأرض تحت مختلف رايات «الإسلام الجهادي» المزعوم، بالإضافة إلى مرتزقة عرب وسوريين متعاملين مع دول إقليمية، عربية وغير عربية، تتعهدهم بالتمويل والتسليح والتدريب، وبجوائز سياسية مغرية.
«الأُصلاء» دول كبرى وأخرى اقليمية لها مصالح ومخططات في غرب آسيا من شواطئ البحر الأبيض المتوسط شرقاً إلى شواطئ بحر قزوين شمالاً. بعض هذه الدول، كأيران وروسيا، يدعم سوريا وحركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية والعراقية واليمنية مباشرةً أو مداورةً. بعضها الآخر، كأمريكا وفرنسا وبريطانيا وتركيا والسعودية و»إسرائيل»، يدعم دولاً وحكومات موالية للغرب الأطلسي وحلفائه الاقليميين، كما يدعم فصائل معارضة سورية وأخرى إرهابية بالمال والسلاح والتدريب ويوفّر لبعضها المشاركة في مؤتمرات سياسية وأمنية في موازاة الاشتباكات العسكرية.
«ليلة الصواريخ» وما سبقها وأعقبها انطوت على تطورات ودلالات لافتة، أبرزها خمس:
اولاها، قيام «إسرائيل» بأعنف قصف عسكري على سوريا منذ حرب 1973، كما قيام سوريا بأعنف ردّ عسكري صاروخي على «اسرائيل» منذ الحرب المشار اليها.
ثانيتها، أن «إسرائيل» حرصت على القول إنها استهدفت قواعد ومواقع عسكرية ايرانية في سوريا، وإنها لم تقصف مواقع سورية إلاّ عندما تصدّت لها بطارية دفاع جوي سورية واحدة، في حين حرصت سوريا على التأكيد أن الصواريخ التي دمرت مواقع ومراصد ومراكز استشعار واستقصاء وتشويش سيبراني بالغة الأهمية في الجولان المحتل هي صواريخ سورية أطلقت من قواعد ومواقع سورية.
ثالثتها، أن»إسرائيل» غالت في تعداد خسائر سوريا في القصف والاشتباكات، كما غالت في التكتم على خسائرها، بعكس سوريا التي حددت بدقة خسائرها البشرية والمادية، كما خسائر العدو في المقابل، تاركةً للمراقبين أن يستخلصوا الفارق بين الادعاءات والحقائق. فقد ادعت «إسرائيل» أن 60 صاروخاً جرى إطلاقها على مواقعها في الجولان المحتل وأن دفاعاتها الجوية أسقطت 20 منها. حسناً، ماذا عن الاربعين صاروخاً الاخرى؟ إذا كان جرى إسقاطها، فأين صور بقاياها ومواقع تبعثرها؟ وإذا كانت أصابت أهدافها، فلماذا امتنعت «إسرائيل» عن الإقرار ببعض الحقيقة، إذا كان رفع المعنويات يحتّم عليها إغفال معظمها؟
رابعتها، أن ايران أنكرت أن تكون قد شاركت في عملية إطلاق الصواريخ على مواقع «اسرائيل» العسكرية الحيوية في الجولان المحتل، كما أن «اسرائيل» لم تقدّم اي دليل حسي على مشاركة إيران، الأمر الذي يعني أن التزام طهران برد انتقامي كانت وعدت به غداة استهداف مواقعها وجنودها في جوار مطار T-4 السوري قبل اسابيع ثلاثة لم ينفذ بعد، وأنه ما زال قائماً.
خامستها، أن رئيس حكومة اسرائيل بنيامين ننتنياهو، كما وزير حربها افيغدور ليبرمان، حرصا على التأكيد على أن «إسرائيل» غير راغبة في المزيد من التوتير والاشتباك.
في ضوء هذه التطورات والدلالات يمكن الاستنتاج أن محور الصراع والاهتمام في الوقت الحاضر هو تداعيات انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق النووي من جهة، وسعي دول أوروبا إلى احتواء تداعيات هذا التصرف الأحمق على مصالحها، وسياستها الداعية إلى الحفاظ على الاتفاق المذكور والإفادة من منافعه، من جهة اخرى.
«إسرائيل» توالي ترامب في سياسته المعادية لإيران، بل هي المحرض الرئيس عليها، فيما ايران تؤيد موقف دول اوروبا الحاضنة للاتفاق النووي والداعية إلى عدم التسرع في التخلي عنه. في هذا المناخ شديد الحساسية والتوتر، حدثت «ليلة الصواريخ»، وفي سياق التجاذبات والضغوط المتبادلة بين أوروبا وايران في وجه امريكا و»إسرائيل» يقتضي رصد المشهد الآخر للصراع بين سوريا وقوى المقاومة العربية من جهة «وإسرائيل» وحلفائها في الغرب الأطلسي و»اصدقائها الجدد» المتعاطفين معها في الخليج من جهة اخرى.
الى ذلك، تكشّفت في غبشة الصراع حقيقةٌ مستجدة بالغة الدلالة. فقد صرح مساعد الرئيس الروسي للتعاون العسكري التقني فلاديمير كوجين، بأنه لا يوجد حديث حتى الآن عن تسليم سوريا منظومات دفاع جوي حديثة»، لافتاً إلى أن القوات السورية «لديها كل ما يلزم».
الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أوضح الالتباس بقوله: «لم يتمّ الإعلان عن امدادات صواريخ S-300، فقد قالت روسيا عقب الضربة الغربية على سوريا بعد «كيماوي دوما» أنها تحتفظ بحقها في القيام بأي شيء تعتبره ضرورياً».
يبدو أن التصدي لـِ»اسرائيل» في الوقت الحاضر»لا تعتبره روسيا ضرورياً» ربما لأن ثمة هدفاً آخر أولى بالاهتمام والإنجاز هو إنهاء وجود «داعش»واخواته في سوريا والعمل على استعادة وحدتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني.
طبعاً موسكو لن تقول إنها غير مسؤولة عن حماية قواعد عسكرية لإيران في سوريا، علماً بأن دمشق لم تطالبها بذلك في يوم من الأيام.
هكذا يتضح أن وجود إيران في سوريا مسألة تتعلق بأطراف محور المقاومة وبسوريا بالدرجة الأولى، وهي ليست بحاجة إلى مطالبة روسيا بأي دعم خاص في هذا الإطار، وانها تكتفي في الوقت الحاضر بالتصدي لـِ»اسرائيل» بكل العنف والقسوة الضروريين، تماماً كما تجلّى ذلك في «ليلة الصواريخ».
كاتب لبناني
د. عصام نعمان