بقليل من التأمل في هذا الذي يجري أمامنا، ونتشربه على الرغم منا، أعني النظر الطويل في الجوائز التي أصبحت تقترن بأي منتوج. الكل يدعوك لأن تتحول من متلق يحلل ويفكك الرسالة، لينزوي ويتموقع، إلى مستهلك منمط و«مفبرك» وأحيانا بكيفية لاشعورية. وغير خاف هنا أن عدوى الإشهار امتدت لكل شيء. وبالتالي، لا داعي للإخبار والإقناع العقلي، بل الإلحاح والإغراء بهدف التخلص من الوضعية والحالة، بالقفز إلى فضاء آخر، وبقليل من الحظ فقط. طبعا القهر يستطيب البحث عن الفردوس ولو في المستنقع.
لذا، نرى جموع الأسواق تتسابق وتتدافع للظفر والفوز ولو بخاتم بلاستيكي لا يقي ولا يسمن. لكن أن تمتد هذه الجوائز إلى الأدب والثقافة وأحيانا بالطريقة الفلكلورية والإشهارية نفسها، لخدمة الجهة والقوالب التي تحتاج إلى ملء، ما دامت الزيوت متوفرة. أقول امتداد الجوائز للأدب بهذه الطريقة بدون تشجيع حقيقي ولا وضع اعتباري للكاتب؛ حوّل فئة الأدباء إلى أرانب للسباق. عن أي أفضلية وجودة يتحدثون في الأعمال الإبداعية؟ أكيد أن النقاد الحقيقيين لو كانت جيوبهم مملوءة، لتركوا هذه الموائد المدورة على مهازلها، وعانقوا الفضاءات والرؤى بدون أفضلية غير واردة على الإطلاق في الأدب.
بدون نفي مسبق لأهمية الجائزة في التنويه بالعمل الأدبي بمختلف أشكاله، وتفعيله في الإيصال والتواصل، من خلال الهالة المحيطة به والمظلة التي ترعاه. لكن أن تغمرنا الجوائز من كل صوب وبشكل متسارع، إلى حد أن البعض يعرف الآخر بالجوائز. وفي المقابل، قد يبعث ذلك على طرح السؤال حول مصداقية هذه الجوائز وسندها الخفي.
نعم يمكن للجوائز أن تطور التواصل والمحفزات، لكن في غياب مؤسسات ثقافية حقيقية بدون تبعية أو هندسة، يكون الأمر مليئا بالاختلال، وأحيانا أفظع مما نعرف في السوق والاستهلاك، بما فيه استهلال الخطب والشعارات الموسمية.
واضح أن المعيارية والإسقاطات تمتد أيضا للجائزة المخصصة للكتابة الأدبية، وهو ما يخلق تفاضلا وإقصاء للخصوصيات ولحقيقة الأدب التي لا تتقيد بالآني والظرفيات والحسابات المؤدلجة. وبالتالي تكريس للواحدية والبطولة غير الواردة في الكتابة إطلاقا. لهذا ترى بعض الكائنات من الأدباء تغمرك بالجوائز التي تضرب شرقا وغربا، وبدون بوصلة وبالأغلفة، كأن الأمر يتعلق بحصانة ما. وحقيقة بدون غربال، فبعض الكتاب يثيرون الشفقة وهم يصرخون أو يشتكون، لأنهم خلقوا لأنفسهم عتبات وأوهاما كثيرة .
أما حين نتوقف حول المعايير الكامنة وراء الجائزة، يبدو أن بعضها مصاب بمسطرة الإطارات والتصورات الجاهزة، التي تريد خلق أتباع وقطيع في الأدب أيضا. أبعد من ذلك، الجائزة قتل للاستمرارية، إذ يبدو أن المبدع معلق بين جائزته وكتاباته الآتية. وقد يخفف ذلك من حرقة الكتابة والتواصل مع الذات أولا. لكن هذا لا يمنع من الإقرار بمصداقية بعض الأصوات الأصيلة والمتأصلة في التربة، وتكون الجائزة اعترافا بالجميل والعميق ضمن العطاء الإنساني.
أقول أمام هذا الغمر، أتركوا الأدب لأدبه خارج منطق الحسابات والظرفيات..
وساهموا في خلق معابر حقيقية للأدب، تمتد من الكتاب إلى الكاتب إلى البنيات… أو انسحبوا… فالأدب يدب دوما، وعكاكيزه لا تستسلم لحفر الطريق… ولكل شبه حانوته طبعا.
٭ شاعر وكاتب من مغربي
عبد الغني فوزي