كان الحلاق الجزائري في محل الحلاقة الذي أختلف إليه في حي إقامتي في لندن يتحفني بنظريات متنوعة في مسائل السياسة والاجتماع. يتكلم بلهجة الواثق العارف بخفايا الأمور ولا يعبأ بما يمكن أن تثيره آراؤه الطريفة من علامات استفهام أو استغراب. أما زميله البريطاني وزميلته الكورية (الجنوبية)، فإنهما لا يتحدثان في السياسة. وقد اعترف لي البريطاني قبل أشهر من موعد الاستفتاء على البركسيت عام 2016 بأنه غير مطلع بما فيه الكفاية على القضايا الكثيرة التي تتعلق بخروج بريطانيا أو بقائها في الاتحاد الأوروبي، ولهذا كان ما زال لم يحسم أمره بعد لأي الجانبين سيصوت. ولكن رغم عزوف الحلاقة الكورية عن السياسة، فإنها قالت لي قبل أسابيع إن مواطنيها في كوريا الجنوبية لا يخشون زعيم كوريا الشمالية ولا يتوقعون منه أي سوء، بل إن من يخشونه حقا هو رئيس الولايات المتحدة. وأضافت شارحة أن كيم جونغ أون ليس مجنونا، بل هو رجل في أتم مداركه العقلية، أما المجنون فعلا فهو ترامب.
وأظن أن أحداث الأيام الأخيرة أثبتت وجاهة رأي هذه المرأة. فقد أتى رد فعل كوريا الشمالية على المناورات العسكرية المشتركة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة محسوبا وموزونا ودالا على تحليل دقيق للمعطيات. إذ لا يمكن التصديق بأن سيول وواشنطن لم تكونا تدركان أن توقيت هذه المناورات، بعد أقل من شهر من بداية ذوبان الجليد بين الكوريتين ومن اللقاء التاريخي بين زعيميهما، وما أشاعه من بشائر المصالحة والسلام بعد سبعين عاما من الانقسام والعداوة، هو توقيت غريب لا يمكن أن تفهمه بيونغ يانغ إلا على أنه عمل استفزازي. بل إن حتى المراقب المحايد لا يمكن أن يفهم هذه المناورات، في هذا التوقيت بالذات، باعتبارها بادرة حسن نية وعملا وديا يهدف لبناء مزيد من الثقة على أساس ما تم تحقيقه في اللقاء التاريخي بين الزعيمين الكوريين.
ولهذا قررت كوريا الشمالية، احتجاجا على هذه المناورات التي وصفتها بأنها تدريبات وبروفات على الغزو وقالت إنها تستهدفها، تعليق المحادثات الرفيعة المستوى التي كانت مقررة ليوم 16 من هذا الشهر مع كوريا الجنوبية، وهددت بإلغاء اجتماع القمة المقرر عقده مع الرئيس الأمريكي في الثاني عشر من الشهر المقبل في سنغافورة. وقال نائب وزير الخارجية كيم كاي غوان في بيان شديد اللهجة إن كوريا الشمالية غير مهتمة باجتماع القمة هذا إذا كان مجرد عملية «أحادية الجانب»، لا يتوقع فيها من بلاده إلا الرضوخ للضغوط الرامية إلى حملها على التجرد من أسلحتها النووية. وأضاف أن «أمريكا تخطئ الحساب» إذا اعتقدت أن مبادرات بلاده التصالحية «المتسمة بسعة الأفق» هي علامات ضعف ووهن، وإذا عمدت إلى «التزويق والتسويق بحيث تبدو هذه المبادرات كما لو أنها ثمرة للعقوبات والضغوط» الأمريكية. ولعل أقوى فقرات البيان هي تلك التي تتعلق بما «تروجه» أمريكا من أنها ستقدم تعويضات ومساعدات اقتصادية لكوريا الشمالية إذا هي تجردت من سلاحها النووي: «ولكننا لم نتوقع أبدا أي دعم أمريكي في إطار جهودنا للبناء الاقتصادي، ولن نعقد بتاتا أي صفقة من هذا النوع (مقايضة النووي بالمساعدات)».
وبما أن جون بولتون، مستشار ترامب للأمن القومي، هو الذي يحرض على كوريا الشمالية وعلى إيران بمثلما حرض عندما كان في إدارة بوش على العراق، وبما أنه تحدث أخيرا عن وجوب أن تتبع كوريا الشمالية «نموذج ليبيا» في نزع السلاح النووي، فإن نائب وزير الخارجية قال في بيانه: «إننا لا نخفي اشمئزازنا» من بولتون، وأنذر من مغبة محاولة «فرض مصير على دولتنا الأبيّة شبيه بمصير ليبيا والعراق».
وفي شرح موقف كوريا الشمالية، يقول صحافي جريدة الاندبندنت القدير، كيم سنغوبتا، الذي غطى وقائع التدخل العسكري الغربي في ليبيا أواخر 2011، إن التجربتين الليبية والإيرانية في التخلي عن برامج التسلح النووي تثبتان أن أمريكا غير جديرة بالثقة. فها هي أمريكا قد تنصلت من اتفاق دولي تشهد الدول الغربية والأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران ظلت، ولا تزال، ملتزمة به التزاما كليا. أما «من كان معنا وشهد جثة القذافي وابنه المعتصم ممددتين على أرضية مستودع في مصراته، فإنه لا يصعب عليه فهم عدم رغبة كيم جونغ أون في أن يلقى المصير ذاته».
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي