لبنان استثناء في العالم العربي لجهة الاستمرارية الدستورية. هذا بمعنيين، أوّلهما أن دستوره الفرنسي المعرّب لعام 1926 ما زال هو الإطار النصي الذي خضعت مواده لسلسلة من التعديلات بعد ذلك، أبرزها التعديلات ابان الاستقلال اللبناني عن فرنسا في خريف 1943، والتعديلات في ضوء اتفاق الطائف، وهذه اعتبرت «دستورا جديدا» بمعنى من المعاني، مع انه لم يكتب دستور جديد، وانما جرى التعديل على مسودة القديم، واضافة مقدمة له كانت غائبة عنه، من دون ان تلغي المساحة الواسعة لتعديلات ما بعد اتفاق الطائف، التي رافق عدد منها تعديلا تشويهيا او تدليسيا للمتفق عليه في الطائف، مثـل زيـادة عـدد النواب اكثر مما جرى عليه الاتفاق، وتنحية اي صلاحية تفسيرية للدستور للمجلس الدستوري المكتفى لـه بـمراقبة دستورية القوانـين.
وعلى الرغم من ان رزمة التعديلات الاستقلالية لعام 43 والوفاقية المشوهة في الكنف الوصائي السوري مطلع التسعينيات هي ابرز التعديلات في تاريخ الدستور اللبناني، فان اكثرها «شقلبة» للمخطط الاساسي الذي قامت على اساسه الجمهورية اللبنانية، هو تعديلات العام التالي مباشرة لسنة قيام الدستور، اي تعديلات 1927 التي الغت مجلس الشيوخ من البرلمان، وبالغائه ضاع النموذج النظري المستوحى من الجمهورية الثالثة للفرنسية، والمتأثر بالدستور البلجيكي، وصارت السمة «المعجونية» للنظام الدستوري اللبناني نافرة، وبالفعل، بتعديلات على النص او من دونها، لم تتوقف عملية «المعجنة الدائمة» هذه للنظام الدستوري اللبناني، وطرائق اشتغاله وتكييفه وتطويعه.
فهذا الدستور قبل الطائف كما بعد الطائف، وان باختلاف في الابعاد والمقادير، تارة يجري تأوله كدستور تميل فيه الديمقراطية البرلمانية بالاتجاه الرئاسي، وتارة يجري تأوله على العكس تماما. يبقى ان المشترك في كل هذا انه، ومع احتفاظ لبنان منذ 1926 بالمادة الدستورية التي تنص على ان نظامه الديمقراطي برلماني، فانه قلما اخذ بالقاعدة الاساسية لهكذا نظام، اي ان تنبثق الحكومة من الاكثرية البرلمانية، وان تتحول الاقلية البرلمانية الى اقلية تعارض وتحاسب وتشكل نوعا من حكومة ظل الى حين تتمكن بالانتخابات من تداول السلطة. أما المدلول الثاني للاستثناء اللبناني فهو ان الدستور اللبناني الذي كان يجري تجميده او ايقاف العمل فيه في المرحلة الانتدابية الفرنسية لفترات متقطعة، لم يجر تجميده او اعلانه لاغيا بعد الاستقلال في اي ازمة او مفصل اجتازه البلد، سواء في الميني حرب اهلية 1958، او في الحرب الاهلية المزمنة 1975، او في سني الوصاية السورية، او في مرحلة الانقسام بعد جلاء جيش الوصاية، وتحكم حزب الله بالاطار السياسي والامني العام اكثر فاكثر. بقي الدستور قادرا على فرض تغطيته المعيارية التي يمكن تهميشها بطبيعة الحال، لكن لا يمكن رميها جانبا او اعتبارها منقضية. فالحرب اللبنانية، اذا ما استثنينا تأجيل الانتخابات النيابية في ظلها، ظلت الاطراف المتناحرة فيها محكومة باطار دستوري، من انتخابات الرئاسة الى تشكيل الحكومة الى انتخاب ودور رئاسة مجلس النواب، ولم تتعطل الآلية المعيارية الدستوري في سني الحرب الا في اواخرها، مع الفراغ الدستوري في اثر نهاية عهد الرئيس امين الجميل، خريف 1988، والانشطار بين حكومتين، عسكرية بقيادة العماد ميشال عون والحكومة السابقة التي كانت برئاسة سليم الحص. قبل ذلك كان البلاد منقسمة، والجيش منقسما، لكن مؤسسات الدولة المنكمشة والضامرة ووزاراتها بالاساس بقيت كلها موحدة، وحكومتها موحدة، ورئيس جمهوريتها موحدا لا احد سواه يعلن نفسه رئيسا لقسم من لبنان، حتى لو ان بعض امراء الحرب كانوا يتحكمون برقعة ترابية وسكانية اكبر من تلك التي يسيطر عليها رئيس الجمهورية وحكومته. فحوى هذه الاستمرارية الدستورية الاستثنائية بالنسبة لبلد عربي، انها لم تطبع بقواطع من نوع انقلابات عسكرية او ثورات، ولا بنقلة من نظام ملكي الى دستوري، ولا بثنائية ديكتاتورية تستوحي من الديمقراطية الشعبية والانتقال للاشتراكية شعاراتها وديكتاتورية تستوحي من تحضير الاجيال للارتقاء لليبرالية شعاراتها. لكنها في الوقت عينه استمرارية نظام دستوري لا يمكن ان تحدد معادلة ناظمة للعبة المؤسسات فيه في لحظة، حتى يكون عليك مراجعتها كليا في لحظة تالية.
ولو اقتصرنا على الاثني عشر عاما التالية لرحيل الجيش السوري عن لبنان لوجدنا هذا النظام لا يثبت فيه دور محدد لكل مؤسسة دستورية، برلمانا او حكومة او مجلسا دستوريا او رئاسة دولة، ويتجه فيه اكثر فاكثر نحو تفسير خرافي للديمقراطية البرلمانية لا تكون فيها الحكومة منبثقة من اكثرية المجلس النيابي والمعارضة هي الاقلية داخله، بل ان جميع الكتل البرلمانية تصر على الدخول الى الحكومة، هذه بوزنها البرلماني، وتلك بوزنها الاكسترا برلماني، كما لو ان الحكومة هي برلمان مصغر او البرلمان حكومة موسعة، بل حكومة مصغرة اذا ما احتسبنا اختزال البرلمان الى ادارة رئيسه الدائم نبيه بري. في وضع كهذا كل مطلب تحديثي اصلاحي للسستام يتحول الى عطب اضافي، بسبب اجتزاء هذا المطلب لزاوية النظر. فصل النيابة عن الوزارة مثلا، استحدث هذا في العقود الاخيرة غربا من اجل توطيد منطق الفصل بين السلطات اكثر، لكنه كما يساق لبنانيا يكرس منطق الخلط العشوائي والاعتباطي بين هذه السلطات اكثر. بدلا من اكثرية تحكم واقلية تعارض، يراد ان يدخل كل فريق ممثل نيابيا الى الحكومة، كي يحكم ويعارض معا. كلهم يحكمون، جميعهم يعارض. كلهم يلفت الى ان صاحب الامر ليس من في الحكم. كلهم يلفت الى انه راغب بالتغيير الثوري فقط حين تتاح الشروط الموضوعية.
في وضع كهذا، الفصل بين النيابة والوزارة يتحول الى طرفة من قبيل ان وزراء فريق في الحكومة ليسوا نوابه في البرلمان، لكن نواب الفريق اياه عليه ان يحاسب نواب الفريق نفسه.
كل تشويه يجري تبريره بالديمقراطية التوافقية والغياب الميثاقي. لكن التوافقية لا يمكن ان تفهم الا كتليين وترطيب للعبة تداول السلطة وتحسين شروط الخاسر والاضعف وصاحب العدد الاقل، وليس نسف لعبة التداول على السلطة والفصل بين السلطات على ما هو حادث.
كاتب لبناني
وسام سعادة
دولة مفصلة تفصيلا طائفيا ويحكمها حزب مسلح تابع لإيران، وتلعب فيها مخابرات سورية ايرانية، ورئيس وزرائها تحت وصاية سعودية واسرائيل تستبيح اراضيها وأجوائها متى شاءت، وسفارات اجنبية لها سطوتها على ساستها، وضاقت ذرعا باللاجئين السوريين لأنهم ليسوا من طائفتين متنافستين شيعة وموارنة بل من جلهم من السنة.. هذه هي ” دولة” لبنان مهما كانت صياغة دستورها