شيء ما يشد في استعمال العلامات هو العدول بها من هذا المعنى إلى ذاك، من غير أن يتفطن المرء إلى أن عدولا ما حدث. وما يشد أكثر في المسألة أن هناك مستوى من مستويات استعمال العلامات تكون فيه حدود توظيفها في المجاز، أو في الحقيقة ضبابية. يبدو هذا الكلام عاما وغامضا. سوف نقرأ الآيتين الأولى والثانية من «سورة القمر» قراءة سيميائية لا تدعي لنفسها منافسة التفسير، بل سننظر في العلامة في معناها الحجاجي ونربطها بالحقيقة والمجاز.
نعتقد أن الحدث الإسلامي الأهم الذي طبع القمر ليس ترسيخ اعتماده في التقويم القمري، وليس في التقليل من قيمته التقديسية عند الشعوب القديمة؛ وإنما في الحديث عن انشقاق القمر. ونحن نعتقد أن هذا الحدث لم يُقرأ القراءة السيميائية الصحيحة، على الرغم من أنه قرئ باعتباره علامة على قيام الساعة. يقول تعالى: «اقْتَرَبَتِ الساعَةُ وَانشَق الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مسْتَمِر» (القمر 1-2). في الآية أن الانشقاق كان علامة على اقتراب قيام الساعة. فيوم القيامة في القرآن يوم تنتهي فيه الحياة الدنيا، ولكنها لا تنتهي فجأة بل تكون بعلامات أو آيات. هذه الآيات، وهي في الغالب من نوع انقلاب الطبيعة على قوانينها التي تسيرها، جُعلت لكي تنبه الناس إلى أنهم راحلون إلى عالم خالد، وبناء عليه وجب أن يستعدوا بالعمل الصالح إلى لقاء الله أحسن لقاء. لكن تبدو الساعة في سياق الآية علامة على شيء مفصلي مقدم على الاستعداد إلى لقاء الله، وهو الإيمان برسالة آخر أنبيائه.
ينبغي أن يغير الناس في عقيدتهم حتى يعدلوا في سلوكهم وينبغي أن تكون العلامة المنبهة لهم عظيمة وعلنية من حجم انشقاق القمر. فما معنى أن ينشق القمر؟ لانشقاقه معان كثيرة أهمها وأبسطها أنه لم يعد مقياسا للزمان: الساعة التي بمعنى القيامة هي ساعة أخرى لها مقياسها الزمني الخاص فيه تنخرم معايير الزمان الطبيعي. وما دام الزمان المعتبر في التقويم في هذه الثقافة قمريا، فينبغي أن ينشق القمر حتى تتوقف وظيفته الأساسية الدالة على الزمان الطبيعي. انشقاق القمر نصفين وخروجه عن الواحدية وزحزحته عن مكانه ومكانته وعن وظيفته، هو علامة على أن القيامة أزفت، وأن الاستعداد لها واجب، هذه هي العلامة التي تدخل في نسق ثقافي أشمل: للدنيا أجل وستنتهي، وللآخرة ميعاد ولهذا الميعاد مقدمات تؤذن بنهايات السعادة الدنيوية الوقتية. القمر في استواء شكله علامة على الزمن الذي هو جزء من سيرورة الفلك الدنيوي، والقمر في انشقاقه مؤذن بأن النهاية موشكة وأنه ليس للإنسان إلا أن يستيقظ من غفلته استعدادا لأوبته الأبدية.
أن يكون انشقاق القمر علامة على اقتراب الساعة وهو المعنى الصريح في الآية فهذا شيء، وأن يكون الانشقاق علامة على النبوة فهذا يظل شيئا آخر. غير أن أغلب التفاسير جعلت الانشقاق علامة على صدق النبوة موجهة إلى جمهور المشككين. أغلب الروايات التي يقدمها المفسرون تقول إن المشركين سألوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) في بداية دعوته أن يقدم لهم دليلا على صدق نبوته فأراهم القمر منشقا؛ لكنهم اعتبروا ذلك سحرا وليس معجزة. بعض الأخبار تورد تفاصيل عن الانشقاق، فلقد نقل الطبري «تفلق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فكانت فرقة على الجبل وفرقة من ورائه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهُم اشْهَد».
ما يشد في هذا الكلام أن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون علامة على السحر وعلى الإعجاز . فإن يكون انشقاق القمر إلى جزئين في السحر يعني أن في المنظر خدعة بصرية، وأن الحقيقة غير ما يُرى. الساحر يوهم المشاهد بأنه يرى شيئا لا وجود له في الواقع: أن يرى أن هناك انشقاقا للقمر ولكن القمر في الواقع سليم. فالانشقاق إذا كان فيه إيهام يكون سحرا والسحر قدرة بشرية خارقة وليست قدرة خارقة تدعمها الذات الإلهية مثلما هو الأمر في النبوة. المعجزة أن يكون هناك انشقاق في حيز ما يشاهده الناس ويكون ذلك الانشقاق حقيقيا وليس موهوما. في القرآن يتغلب الأنبياء على السحرة لأن السحر شعوذة وطاقة على الإيهام شيطانية بينما النبوة طاقة ربانية قادرة على أن تقلب الكون من حالة إلى أخرى من غير إيهام. ليس للسحر علامة ولكن للمعجزة علامة: أن يوهم الساحر بأن القمر انشق أو أن العصا باتت أفعى لا يحمل على أنه علامة، بل هو لعبة السحر نفسها، لكن أن يكون هناك انشقاق أو أن تصبح العصا أفعى تلتهم الأفاعي فذلك هو العلامة على الإعجاز لأن الحدث يصبح دالا على غير ما وقع له وهذا هو المعنى الأصلي للعلامة: أن تدل على غيرها. إن الإشكال في تخريج الحدث من باب السحر أو من باب المعجزة ليس خطأ في تأويل ما حدث، بل هو قراءة الانشقاق على أنه حدث دال في ذاته وبالتالي هو سحر؛ أو على أنها علامة على شيء خارج دلالته الذاتية وهو النبوة. ليس من الصعب التمييز بين الساحر والنبي إلا على من عجز عن قراءة العجيب الخارق على أنه فعل إلهي لتقوية موقع الرسول أو على أنه سحر يتميز به السحرة من البشر من غير دعم إلا من عوالم خفية.
لم أجد أبلغ في تفسير الفرق بين الانشقاق على أنه معجزة (أي آية) وتفسيره على أنه سحر من هذا الاسترسال بين الحقيقة والمجاز. الحديث عن انشقاق في المعجزة هو حديث عن فعل حقيقي، ولكن الحديث عن فعل الانشقاق في السحر هو حديث عن فعل مجازي نراه كأنه حقيقي لأن السحر يريه لنا كذلك، ولكن خارج الرؤية السحرية لا وجود لانشقاق. يورد الطبري في تفسير الآيتين شيئا من التباس الحقيقة بالمجاز فيقول ناقلا عن أبي عبد الرحمن السُلَمي أنه قال: «نـزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ فجاءت الجمعة فحضر أبي وحضرت معه فخطبنا حُذيفة فقال: ألا إن الله يقول (اقْتَرَبَتِ الساعَةُ وَانْشَق الْقَمَرُ)؛ ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المِضمار، وغدا السباق. فقلت لأبي: أتستبق الناس غدا؟ فقال: يا بني إنك لجاهل، إنما هو السباق بالأعمال.» اشتبه أمر السباق على الابن الراوي أهو حقيقي أم مجازي توهم أنه حقيقي وهو مجازي لأنه استرسل مع المعنى الأول وهو الانشقاق فحمله على الحقيقة، وبالتالي رآه علامة حقيقية وبرهنة ربانية على قدوم الساعة. يسترسل الذهن مع الحقيقة ليراها جميعا حقيقة لأنه يرى المعجز ممكنا وحادثا، ويمكن للذهن أن يسترسل مع المجاز ليرى أن الانشقاق مجازيا فيه مبالغة وإفراط في تصوير قرب الساعة وعندئذ يكون الانشقاق ضربا من السحر في الكلام: العلامة إن دخلت المجاز لم تغادر واقعها.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
{ اقتربت السّاعةُ وانشقّ القمرُ}( القمر1).ياسيدي الدكتورحفظك الله ؛ قول الرّحمن في سورة القمر؛ فإنّ { اقتربت } : أي تقاربت ؛ والتقارب ضد التباعد ؛ كما في الحديث النبويّ : { إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب }.وأما بشأن الآية : { اقتربت السّاعةُ } فتدلّ على اعتدال الليل والنهار.فهو( مصطلح ) عند العرب هكذا قالها ابن الأثير:( أراد اقتراب السّاعة : قيل اعتدال الليل والنهار).ينظر: لسان العرب ؛ ابن منظور؛ مادة : ( قرب ).أما معنى السّاعة والقمرهنا ؛ فليست دلالة على يوم القيامة الأكبرولا على كوكب القمـر.فهذه شؤون تقع خارج مسؤولية الإنسان في الأرض ؛ فلا يتناولها القرآن كما ورثناها عن الأوائل.إنّ القرآن منهج ربانيّ للحياة الدنيا في الأرض دلائل ؛ وإنذارمبكّرلهذه الأمة من تكالب وقائع النوازل.وفيه خبرالأوائل والأواخر؛ وما بينهما من روابط ومسائـل.إنّ القرآن يبتدأ بالإنسان وينتهي به ؛ كمركزخطاب مُنـزل.نعم السّاعة ؛ اسم من أسماء يوم القيامة ؛ لكن ليست بذات الدلالة هنا.بل جاءت مجازًا.ربما تريد معرفة الجواب البديل؟ سيأتي ؛ إنْ شاء الله ؛ في وقت آخر.فقط أشيرإلى أنّ سورالمفصّل ؛ ومنها سورة القمر؛ تناولت أحوال أقاليم الأمة من بعد نهاية الخلافة…مع الحرب العالمية الأولى حتى اليوم ؛ وما بعده من أيام ؛ نبوءة قرآنية من لدن الخبيرالعليم.أما ما هوذائع من معانٍ موروثة ومعاصرة تنسب لما قالوا في التفاسيرهكذا بشأن هذه السورة المعجزة المتحققة فأضغاث أحلام ؛ ياسيدي ؛ ماكه.والمتفق عليه أنّ سورالمفصّل ؛ تبتدأ بسورة : { ق } حتى سورة : { النــاس }. قال ابن حجر: { أول المفصّل ق إلى آخرالقرآن على الصحيح }.ينظر: فتح الباري ؛ ج 2 ؛ صفحة 259.وسورة القمربينهما في السّماء ( محاق ) وفي الأرض ( دمشق ). فالقمرعند العـرب من أسماء بلاد الشــام ؛ كما ( الشّمــس ) من أسمـاء مصـرالقلـزم.
انتظر تعليقات الدكتور جمال البدري بفارغ الصبر .. أرجو المزيد من البيان لتفسير هذه السورة ؟