■ لا أحد ينكر ويتنكر اليوم للمد الإبداعي في كل أنواع الأدب؛ ويظهر ذلك جليا في الإصدارات المتسارعة في الشعر والقصة والرواية. لكن طريق الكتاب في التداول غير سالكة؛ نظرا للكيفية التي نتلقى بها الكتاب في الإعلام والمؤسسات وفي المجتمع. وبالتالي يبقى الكتاب مفارقا للوضعية والسلوك اليومي. على الرغم من أننا نحلق الناس حوله، لكن بعد أن يتفرقوا، يعودون لعادتهم القديمة بدون جدل الفكرة أو حيوية النفس أو تعميق النظرة.
لقد تغيرت أشياء وأشياء، لكن منظومة القيم في تراجع وتفكك، حتى كدنا نفقد السلوك الثقافي؛ بل أحيانا نرى مبدعين ومثقفين بلا هذا السلوك أصلا. أتوقف هنا حول محنة المبدع ضمن محيط متصلب الشرايين لا يأبه بهذه المدعوة «كتابة»، ولا لهذا المبدع الذي يمنح جسده للهوس والتخيل إلى آخر رمق؛ قصد السمو بالأشياء، وإعادة بنائها ضمن تخلق إنساني عميق يليق بالنهر الذي يجري، على الرغم من كل الإكراهات والترسبات في العمق الذي نذبحه يوميا، ونلطخه بالكتل المدفوعة بقوى خالية تماما من النبض وقيم الحيوات المشبعة بأسئلة الحياة والوجود.
ضمن هذا الزحام واللغط المنظم والمقنن؛ أين تجد المبدع؟ وأين يقيم؟ يغلب الظن أن الكاتب يلوذ بجسده ومنحوتاته أمام صد اليومي الذي يكاد يبتلعه، ابتداء من الأسرة ومستلزماتها، إلى المؤسسة وعنفها الأيديولوجي الذي لا يعير أي اعتبار للمبدع والثقافة عموما، إلى المجتمع الذي يتخذ من الثقافة مؤثثا فقط . ومع ذلك يختار المبدع أن يدفع بإصداراته وهوائه ولو على حساب حياته وجسده الذي ينهك بالضربات بمختلف أنواعها، بما فيها ضربات الأصدقاء الباحثين عن منفذ، ولو على حساب الإبداع، للتخلص من هذا اليومي، ومن الكتابة المحمومة التي يعودون إليها بعد ضياع أمجادهم الخاصة.
ومع ذلك، المبدع يؤسس جمعيات وينخرط في نواد ويعرف الأدب والثقافة بمفرده؛ واعتمادا على مجهوده المضني كأنه يقوم بعمل مؤسسي. لاحظ معي الآن، المبدعون المغاربة يرقصون في كل فضاء ثقافي مغربيا وعربيا: في نوافذ الإنترنت والمجلات الورقية وفي الصحف السيارة.. كل ذلك على محمل أعصابهم وطاقاتهم الجنونية ـ إلى حد المرض ـ التي تحركهم كخيوط متخففة من هذا الكل الموصد والمتصلب الشرايين والجاف من الداخل. يرقصون فرادى، وأحيانا لا يستحقون حتى كلمة «شكرا». مبدعون يعرفون حقهم المهضوم، ولا يلتفتون.. ويتم التعامل معهم كسذج، ومع ذلك، يستمرون في الرقص ذاته بكامل الأناقة، بدون هندسات مدفوعة الأجر والمقايضة. هذا المبدع نفسه يغذي صحفنا ومجلاتنا بلا رصيد ولا حساب، وعلى «ظهره» ـ إسمحوا لي باستعمال هذه الكلمة لأنها في الصميم وتليق بميزانهم الصرفي ـ تغتني الأرصدة وتزغرد الألسنة، ومع ذلك، لا يسعى هذا المبدع لشيء ما، عدا أن يقرأ ويقرأ ويشارك في إدارة رحى الثقافة الثقيل بدون انتفاخ أو فلكلور أو تسطيح للفعل الثقافي. في هذا السياق الذي لا أنساق له، يطبع المبدع على نفقته، لأنه يفكر ويفكر، ويعرف أنه ذاهب وماله، فيخصص بعضا من نصيبه للآخر، أعني الأكل غير الفردي الذي لا ينفخ البطن والوجه لحين؛ بل يجري في الامتداد الصالح للحركات العميقة. لكن في المقابل، لا نلتفت لكتابه كأنه ملكية خاصة أو سلعة على غرار سلعهم وتعليبهم الذي يعلمنا على المقاس حتى لا نبحث عن أي امتداد عبر الكتاب.
ومع ذلك، المبدع يسكن حجره في الحياة والموت، ويغني…
٭ شاعر و كاتب من المغرب
عبد الغني فوزي
مقال جميل فصاحبه الكاتب المغربي عبد الغني فوزي يضع فيه اليد على معاناة الكاتب والمبدع المجاني الذي يسهر ويبدع ثم يكابد من أجل الطبع والعرض والنقاش وسط جمهور لا تعنيه الثقافة أي شيء ، مبدع مكافح يزود المجلات والجرائد والحوارات الإذاعية وغيرها بلا مقابل سوى نشر الثقافة والعمل على التنوير و الإصلاح مجانا بلا درهم ولا كلمة شكر.