على هامش الدورة الرابعة من منتدى «مواعيد تاريخ العالم العربي» الذي ينظمه معهد العالم العربي في باريس هذه الأيام، قال المؤرخ هنري لورنس إن ارتداد العالم العربي إلى حال من السوء أكبر وأخطر مما كان عليه قبل عام 2011 لا يسوغ المسارعة إلى الحكم على الثورات العربية بالفشل. والتعليل هو أن صيرورة الثورات لا يمكن أن تتكشّف فعلا إلا بعد عقود. وضرب على ذلك مثالا بانتفاضة أيار/مايو 1968 في فرنسا. فقد أعقبتها انتخابات عامة أعادت اليمين مجددا إلى الحكم ـ محبطة بذلك آمال نصف مليون من الطلاب وسبعة ملايين من العمال ـ ولكن أثر الانتفاضة لا يزال ساريا إلى الآن في نسيج الحياة الاجتماعية والثقافية الفرنسية. ذلك أن جيل الشباب الذي شارك في أحداث 1968 أو عايشها بكل وجدانه لا يزال متأثرا بها حتى هذا اليوم ولا تزال بالنسبة إليه مرجعا قيميّا ودليلا عمليا. كذلك الأمر بالنسبة لمئات الآلاف من الشباب الذي شارك في الثورات العربية أو واكبها، إذ سيبقى أثر هذه الثورات ممتدا في حياته إلى حدود عام 2060.
ولمزيد التوضيح أورد هنري لورنس مثالا آخر من التاريخ المعاصر، هو «ذوبان الجليد» النسبي الذي أعقب موت ستالين عام 1953. حيث أن الانفراج السياسي والمدني الفعلي لم يقع إلا بعد ثلاثين سنة من ذلك لأن الساسة والمساعدين الذين اعتمد عليهم غورباتشوف عند تسلمه الحكم منتصف الثمانينيات هم من الجيل الذي شهد فترة المتنفّس الوجيزة التي طرأت في الاتحاد السوفييتي في الخمسينيات. ولذلك فالرأي عند هذا الباحث المتخصص في التاريخ العربي هو أن المنظور الزمني المديد مكون هام في فهم صيرورة الثورات وتبلور نتائجها العامة.
وهذا رأي معقول يحظى بشبه إجماع لدى الباحثين في العلوم الاجتماعية والتاريخية. ولعل من أبرز الأمثلة على وجاهته أن بريطانيا لم تشهد حدثا ثوريا حقيقيا منذ إطاحة أوليفر كروميل بالملكيّة وإنشائه حكما جمهوريا عام 1649. ذلك أن «بندول، أو رقاص، الساعة الحائطية يتمايل ويتأرجح في بريطانيا»، كما قال رئيس الحكومة الراحل هارولد ماكميلان للملكة اليزابيث الثانية في حفل خاص عام 1973، «ولكنه لا يتأرجح إلى اليمين كليا ولا إلى اليسار كليا». كان ذلك إبان المظاهرات الكبرى لعمال المناجم في بريطانيا، وكان القلق يساور الطبقة الحاكمة من توسع نفوذ الحركة العمالية. فقد نقل عن المكلة أنها قالت إن «هؤلاء العمال حصلوا على سلطة مفرطة حتى أصبحوا يحكمون البلاد ويحتجزونها رهينة». فكان ذلك دافعا لتعليق أحدهم بأن الملكة فيكتوريا قد أصيبت هي أيضا بالهلع من انتفاضات 1848 التي اندلعت في عدد من البلدان الأوروبية وعرفت باسم «ربيع الشعوب. لهذا أضاف ماكميلان، السياسي المحافظ الحصيف العارف بالأدب والتاريخ، مهدئا من روع اليزابث الثانية: «وبينما ترين أن بندول الساعة يميل صوب اليسار، فإني بدأت ألمح بعض التحرك نحو اليمين. لذلك فلا تخافي، سوف تسير كل الأمور على ما يرام».
وهذا ما حصل بالفعل. فقد سارت الأمور على ما يرام بالنسبة للطبقة المستفيدة من ثبات الوضع القائم، حيث أنه لم تمض ستة أعوام حتى كانت مارغريت تاتشر قد وصلت إلى الحكم، مدشنة (مع رونالد ريغان بعد عام من ذلك) ما أطلق عليه اسم “الثورة المحافظة”، أي عودة الأصولية الرأسمالية غير المنقحة بأي من مكاسب العدالة الاجتماعية.
إذن لا جدال في أن عمر الثورات طويل. فهي ديناميكيات تاريخية مفتوحة على شتى الاحتمالات، ومسارات متعرجة معقدة مليئة بالتراجعات والانتكاسات. ولكن يبقى، مع كل هذا، أن ما تتخبط فيه اليوم البلدان العربية التي هزتها ثورات 2011 من حروب أهلية أو إقليمية مقترنة، في بلدان اللاّ ـ حرب، بأسمج أنواع الجهالة الدكتاتورية إنما يجعل من الصعب الاطمئنان إلى هذا الرأي رغم معقوليته. أما ما يضاعف هذه الصعوبة فهو أن هنالك في التاريخ المعاصر أمثلة، من إسبانيا والبرتغال، على عدم استحالة التحول الديمقراطي الحثيث. بل إن تجربة الصهاينة الروس والأوروبيين الشرقيين أثبتت عام 1948 أنه يمكن التعجيل بإقامة نظام ديمقراطي (للمحتلين اليهود فقط، طبعا) حتى قبل أن يتوفر شرط الثقافة الديمقراطية.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
كلام جميل ولكنة لا ينطبق على الكل فجيل الاربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرت الماضي كانوا يحملون القضية الفلسطينية والافكار الاشتراكية والقومية والان اين هم
مضى على بداية الحرب الاهلية اللبنانية 44 عاما و على اتفاق الطائف 27 عاما و ومات زعماء الطوائف و تغيرت العائلات الحاكمة و ظهر زعماء جدد وما زالت الطائفية هي هي