عرس هاري

حجم الخط
13

■ لا يمكن لبلد أنجب شكسبير أن يتوقف عن إنجاب مزيد من القصص المبهرة للعالم، بلد الملاحم والمسارح والتقاليد التي رسّخت لثقافة حقيقية لا تزال قائمة منذ قرون.
نحن الذين مهما كنا أمة شاعرة أو ناثرة، أو أصحاب حضارة شفوية، حتى إن كان انتماؤنا لذلك اللفظي القصصي المبهر، كألف ليلة وليلة، وحكايات مدن الذهب والكنوز المدفونة، والمعلّقات، وقصص الحب القاتل وأطنان الغزل العفيف والماجن، فإننا لم نعش بعد ما يوثق صلتنا بكل ذلك التراث العظيم، كما يعيشه الإنكليز يوميا، بإحياء تراثهم على مسارحهم، وعيشه واقعيا بمتابعة حيوات أمرائهم وملوكهم، بكل تفاصيلها الثابتة والمتغيرة، في تشابك عجيب غريب لا يفصل المُعاش عن المُتَخيَّل، فخلال ذلك التاريخ الثقافي الطويل كانت الخيوط رفيعة بين الظّاهرتين.
مؤخرا بُثَّ عرس الأمير هاري على المباشر عبر قنوات فضائية عالمية، وعاش العالم بأسره وقائع انتصار الحب مجددا، واختراقه العائلة الملكية البريطانية ودمائها النبيلة. وهذه المرة برزت السندريلا السمراء بمعطيات ثقافية مختلفة، فهي ليست الأميرة المظلومة من زوجة أبيها، التي استعادت مجدها بمساعدة الجنيات، والطاقات العجيبة لهن، وليست الثلجة البيضاء التي عانت من مصير مشابه قبل أن ينقذها أمير عابر من سباتها، ولا غيرها من تلك القصص التي بدون أن نشعر تمرر رسالة واحدة وهي أن ما يحدث للأمراء لا يحدث للعامة، وأن سحر المرويات لا يكتمل إلا إذا كان محبوكا بخيوط ملكية.
فالسندريلا اليوم ليس لها أي جذور ملكية، ودماؤها خليط من الدماء الأيرلندية – الإفريقية، سيدة مكافحة من الشعب الأمريكي الذي لا يؤمن بالنبالة والقوائم الطويلة التي تزخر بها التقاليد الملكية. هي الصبية المكافحة التي قطعت طريقا طويلا تخلله الكثير من الاجتهاد لتحقق ما تريد، كما وصفها الإعلام الأجنبي، وهي المطلقة السمراء التي تكبر ابن الأميرة ديانا بثلاث سنوات، كما وصفها الإعلام العربي وضجت بالخبر «الصدمة» مواقع تواصلنا الاجتماعي. وهي السيدة البسيطة في زينتها وأناقتها التي فازت بقلب الأمير. لا يخلو كل وصف من الإشارات المربكة لنا ولثقافتنا، إذ أننا لا نفهم كيف لتلك القوانين الملكية الصارمة الموثقة أن تتغيّر رضوخا للحب؟ سواء دام أو لم يدم، طال أو لم يطل، إلاّ أنّه المنتصر حين يتم الإصرار عليه.
في مقالات سابقة تحدثت عن الحب في الأدب، عن الحب المُلهِم الذي يُحلَّلُه الشعراء لأنفسهم ويحرمونه على غيرهم، عن مجتمعاتنا العاطفية التي لا تعرف من الحب غير خواتيمه المفجعة، وعن نماذج كثيرة من تلك العواطف الجارفة التي ترمي بنا إلى مزيد من القمع وجرائم الشرف والولاء المريض للأشخاص، والمصائر المجهولة التي تكرّس لخلاصة واحدة وهي «فشل الحب»، وعن ثقوب كبيرة تنتاب علاقات الرجال والنساء، حتى في دائرة الحب الحميمة، حيث الزواج مقبرة للحب، والحب مقبرة للصدق، والصدق مقبرة للصادقين أنفسهم، في عملية تتم هكذا بالتتالي بدون أن ندرك ميكانيزماتها، ومحرّكاتها وأهدافها.
لا بوصلة في علاقاتنا في الحقيقة، غير ذلك الاهتزاز التي يحيلنا دوما للشك، واختراع الأكاذيب، والأخذ بدون عطاء يذكر، وهي كلها أمور تحدث، لكن ليس بالحجم الذي يجعلها علامة فارقة في تعاملنا اليومي، حتى انعكس ذلك ليس فقط في الخطاب الشعبي غير الموثق، بل إلى الخطاب الديني الذي يفترض أن يحترم قسطا من القدسية لتوصيله، فعلا المنابر، وحاكى الأدب والشعر، ولوى الخطاب السياسي حتى ما عادت هناك ثقة بين الطبقات على اختلافها، طبقة الشعب الهائمة على وجهها، الطبقة المثقفة، الطبقة السياسية، وطبقة الدجالين التي ارتدت العمائم وانصهرت في طبقة رجال الدين.
هل ترتبط كل هذه المعطيات بزواج هاري؟ بشكل ما نعم، حين نقرأ التغيرات التي طالت نصوصا لا تتغير إلا حين يهب الحب على القصر الملكي، وتبدأ الإسقاطات التي تعنينا على ما يحدث. لماذا انتصر الحب في هذا القصر الذي يمنع حتى تشابك أيدي الزوجين أمام الملأ؟ هاري العاشق كسر القاعدة وظهر في مناسبات عدة وهو يشبك يد ميغان؟ فهل كان يرسل الإشارات للعائلة المالكة عن مدى توطد العلاقة بينه وبين ميغان؟ ومهّد لكسر مزيد من التقاليد، تماما كما فعلت والدته؟ أم أن التساهل في ما يخص هذه التقاليد الصارمة يخص الحب فقط ولا يتجاوز خطه؟ إذ أن أغلب الزيجات الملكية كانت عليها علامات استفهام، تلتها تعديلات في بعض القوانين، إلى أن دخلت القصر سيدة ملونة نصف أوروبية، نصف إفريقية، وهذا من شأنه أن يخلق جيلا جديدا من المتمردين عاطفيا قد يفوق الزيجات السابقة كلها. الذي أركز عليه خلافا للقراءات التي تلت عرس هاري، هو ذلك الكم من الصدق الذي حظيت به هذه المرأة تحديدا، هي التي تعيش حياة مكشوفة تحت الأضواء بكل عيوبها وحسناتها، ومع هذا لم يعكر ذلك صفو خيار هاري لها زوجة، وهي عيوب تناولها أغلب المتابعين العرب باستهجان، فحسب الذوق العربي هذه الصفات لا تؤهل هذه السمراء ذات الدماء المختلطة غير النقية للزواج من أمير، حتى إن كان هذا الأمير فيه من العيوب ما خفي عنا، بل إن ميغان غير مؤهلة حتى للزواج من رجل عربي عادي، لديه من الشروط ما يجعل المرأة لا تتوقف عن تمثيل دور امرأة أخرى يختلف عن شخصيتها تماما، وهي بشخصيتها الثانية التي تحقق لها الزواج، لا تتمكن من إيجاد دور ثالث يحفظ لها الاستقرار الزوجي، والسكينة الروحية التي يعيشها أي رجل وامرأة في مجتمعات أخرى ولو بشكل مؤقت، ففي الغالب تبنى زيجاتنا وعلاقاتنا منذ البداية على كذبة، وتنتهي حسب طول أو قصر تلك الكذبة.
حتى في أدبنا العربي لم تعلق في رؤوسنا غير قصة قيس وليلى، التي لا تختلف عن قصة روميو وجولييت، ولم يبدع أدباؤنا بطلا مثل هاري بوتر، يعلم الأطفال أن الحب هو الذي ينتصر، والخير هو الذي يعم، حتى في عالم الأشرار، والسحرة والمشعوذين. لم تنجب بيئتنا صبية حالمة عالجت اكتئابها باختراع هاري الجميل الطيب المحب الذكي، ذلك أن بيئتنا خالية من صورة لهاري بتلك المواصفات، أطفالنا سحقنا طفولتهم حتى لامسنا موضع البراءة فيهم فتغيرت، وهم إن تشبهوا بهاري بوتر فلن نسمح لهم أبدا أن يستمروا في ذلك، فصورة هاري نفضل أن نتركها معلّقة في المخيال الطفولي، مثل ورقة تسقط عند أوائل موسم البلوغ.
بين هاري المتخيل، وهاري الأمير الحقيقي الذي تابعته جماهير العالم وهو يقول نعم للزواج من حبيبته السمراء، تقارب مخيف، ليس فقط كونهما يحملان الاسم نفسه، بل لأن كليهما رمز لنشر فكرة «انتصار الحب» حتى في عقر أعرق الممالك المدججة على مدى قرون بقوانين قاسية لتقليص الحرية الفردية، وترويض العواطف.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

عرس هاري

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمود ابو عارف - كولومبيا:

    لماذا يقفز مركب الدونية عند بعض العرب تجاه الحضارة الغربية الى الأعلى بمناسبة وبغير مناسبة ؟

    هل زواج أمير بريطاني مناسبة كي تجلد الحب بين الرجل والمرأة في الثقافة العربية وتغدق المديح عليه في الثقافة الغربية؟

    الا يكفي اهانة للحب ان الغرب يستعمل مصطلح ( يصنع حبا) للتعبير عن العلاقة الحميمة بين شاب وفتاة حتى ولو كانت العلاقة علاقة عهر او شذوذ في حين يعبر عنها في الثقافة العربية برقة ورقي في القران الكريم في خطاب للرجل ( لامستم النساء).

    علاقة الحب بين شاب وفتاة في الثقافة العربية طاهرة و تتوج بالزواج و لكنها علاقة حرة في الثقافة الغربية وحتى إنجاب الأولاد لاعلاقة له بالزواج. في الثقافة الغربية خلاف الطبيعة الانسانية يقول رجل عن اخر (زوجي وحبيبي ) وتقول امرأة عن اخرى ( زوجتي وحبيبتي). الحمدلله لازالت الثقافة العربية بخير

    نعم هناك بعض العيوب في العلاقة بين الرجل والمرأة في الثقافة العربية منها في بعض الحالات التشدد في أمور الزواج وتدخل الأهل وأسس تقييم كفاءة الرجل

    زواج هاري وميغان حدث جديد يظهر ان المحيط الملكي اجبر على التخلي عن معايير الانتقاء مكرها واغلب الظن ان الملكة إليزابيث مستنكرة في قلبها لهذا الزواج

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية