يهلّ رمضان كما يهلّ كل عام وتنطلق الدعوات بالخير، ويبدو المسلمون في أرق حالتهم. زمان كان جيلي يري ويسمع هذه الدعوات من حوله وينطلق في الشهر الكريم مع السهر والاحتفال، ويمر الشهر سريعا لاختلاف إيقاع الحياة، فاليوم يبدأ مع المساء بعد الإفطار. الآن يرى الأحياء من أبناء جيلي ممن يتابعون الإنترنت الدعوات الطيبة تملأ الدنيا، وتبدو الدنيا رائعة بحق، ونكاد ننسى ما فيها من ألم عام ألمَّ بأقطار عربية عظيمة في التاريخ، أو ألم خاص، رغم أن الآلام الخاصة أيضا لا تنتهي، وإن جعل الشهر الكريم منها محنة إلهية مصيرها إلى الزوال، على الأقل من بابا الأمل.
يظل رمضان شهرا جميلا رغم أي شيء، وما سأتحدث عنه هنا مختلف عن هذا الحديث لكنه أمر من عبث الحياة في مصر، وربما في غيرها. أعني به مسلسلات رمضان. أعترف بأني كنت من هواة الفرجة على المسلسلات منذ صار للتلفزيون وجود في بيتنا. كانت الجلسة بعد الإفطارأمام المسلسل مع الأسرة شيئا رائعا بحق، وكانت هناك أسماء عظيمة في الكتابة والإخراج والتمثيل. لكن هذا لا يعني عدم وجود أسماء أخرى معاصرة، فلا أحب أن أقع في النوستالجيا، وأعتبر القديم هو الأجمل دائما، فكما أنتجت مصر كتابا مثل وحيد حامد وأسامة انور عكاشة ومحمد جلال عبد القوي ومحسن زايد ومحمد صفاء عامر ويسر السيوي، أنتجت أسماء مثل مريم نعوم ومحمد أمين راضي ومحمد صلاح العزب ونشوى زايد وغيرهم طبعا، وكما أنتجت مخرجين مثل محمد فاضل وإسماعيل عبد الحافظ وإنعام محمد علي أنتجت اسماء جديدة مثل كاملة أبو ذكري، وأكرم فريد وأحمد نادر جلال ومحمد العدل وغيرهم.
زاد الإنتاج عن أيام زمان، حين كانت للتلفزيون المصري قناتان رئيسيتان فقط وكان للإذاعة مذاق رائع أيضا في المسلسلات ولا يزال. كانت المسلسلات تمر بخير ولا تترك وراءها إلا الشعور بالجمال وعظمة الفن، لكن منذ أكثر من عشرين سنة بدأت بعض الصيحات تعلق على المسلسلات، إنها تسيء إلى فئة معينة، وعادة يكون صاحب الصيحة من هذه الفئة . ثم ازداد الأمر حتى صار طقسا رمضانيا أسميه أنا اسطوانة لتكراره. في السنوات السابقة زاد جدا هذا الأمر، رغم أن الجميع يعرفون أن هناك من البداية رقابة فنية مسبقة على المسلسلات والأفلام. أصبح الرقيب الحقيقي من بعض المتفرجين. وبالمناسبة هذا ممتد ليشمل كل أنواع الفنون المكتوبة والمرئية، ولأن في مصر قانونا يسمى قانون الحسبة، فقد صار من حق أي شخص أن يتقدم بشكوى إلى الجهات القانونية ـ النيابة مثلا ـ يتضرر فيها من أي عمل فني أو أدبي. لا أريد أن ابتعد عن المسلسلات الآن إلى الأدب وما يحدث فيه أو له. شهدت المسلسلات ما شهدت الآداب المكتوبة. وهذا العام وأنا أكتب هذا المقال هناك من تقدم بطلب إحاطة إلى مجلس الشعب باعتباره عضوا فيه لشكوى من مسلسل لأن فيه إساءة لأهل الفيوم! يقول إن المسلسل يعتبرهم إرهابيين، رغم أن الفيوم بلد عظيم له تاريخ وطني عظيم. وهناك من تقدم بشكوى من مسلسل ظهر فيه رجل دين مسيحي على غير ما يحب ويرى في ذلك فرقة وطنيه.
أكتب هذا المقال في اليوم الثالث من رمضان. أي في بداية الشهر وأتوقع طبعا أن تزداد الشكاوى مع تقدم الشهر. ولقد كتبت كثيرا أدافع عن الفنون والآداب قائلا إن الشخص الشرير في العمل الفني أو الأدبي ليس رمزا لفئة ولا معبرا عن فئة، لكنه فقط هو الشرير ونحن نستمتع بتطور الأحداث الدرامية وتطور التمثيل والإخراج والتصوير، ولا يعني أبدا وجود ضابط شرير أن الجميع أشرار ولا وجود قاض أو محام أو مدرس أو ما تشاء من الوظائف أن أصحابها جميعهم أشرار. الأشرار هم أشرار داخل العمل الفني وليس خارجه والصراع بينهم وبين غيرهم داخل العمل الفني وليس خارجه، والعمل الفني ليس كتابا في التربية الوطنية ولا مقالا في حسن السير والسلوك، لكنه تطور الأحداث ومتعتها هو الذي يقنع المشاهد أو القارئ، وفي النهاية الأمر يتوقف على ثقافة وروح المتلقي.
وعموما من يري شرا في عمل فني لا يقلده بقوة من يرى الشر حوله في الحياة من البيت إلى المدرسة إلى الشارع. والعمل الفني في النهاية رغم ما يُبذل فيه من جهد من المبدعين أو الممثلين أو المخرجين، وغيرهم من أدوات الإنتاج هو في النهاية سلعة يمكن لك أن تشاهدها وتستمر في مشاهدتها أو تقلع عن المشاهدة وتشاهد عملا آخر. العمل الفني في النهاية حقا سلعة لا أحد يجبرك على مشاهدة فيلم لا تريده ولا مسلسل ولا شراء لوحة لا تحبها ولا الاستمرار في قراءة رواية أو ديوان شعر لا تحبه، وهكذا لكن لا أحد يفهم. هناك للأسف كثير جدا من المزايدة في رفع شعار الأخلاق لمشاهدة جملة أو عبارة أو مشهد وتترك العمل كله ثم تهاجمه وتهاجم أصحابه، بينما أنت حر في استكمال المشاهدة من عدمها. ونوع من المزايدة في معرفة ما ينفع الناس وما يضرهم والحمد لله الرقابة جعلت الخير ينتشر في بلادنا! ألا تراه حولك؟ كيف حقا لا تراه؟ أنت أكيد مجنون. نحن نعيش في الجنة الموعودة يا أخي. وهناك طبعا من بين هؤلاء الرافضين لما يشاهدون من يريدون شهرة من الصياح أو الشكوى وفرصة الشهرة في الهجوم على المسلسلات والأفلام كبيرة جدا طبعا.
رمضان إذن ومنذ سنوات شهر ترتفع فيه الشعارات المزيفة عن الفضيلة، ولقد بدأت الاسطوانة مبكرا في مصر هذا العام. ساعد عليها طبعا وجود لجنة عليا للرقابة بالإضافة إلي الرقابة المقررة سلفا. لجنة عليا من مثقفين يعتبرون أنهم المرجع الوحيد للأخلاق في مصر، وحين ذاع خبر الغرامات الكبيرة التي ستفرض على الألفاظ الخادشة للحياء توقعت تشجيع من يريدون الشهرة أو من لا يعرفون معنى الفن والفنون في الاستفادة من الأمر.
وهكذا سنجد أن الاسطوانة ستدور بسرعة في الأيام المقبلة. الأسطوانة المكررة التي لا معنى لها وفقا لما سبق وشرحته. أيها الناس أنا لا أشاهد المسلسلات هذا العام لسبب آخر تماما وهو أن بين المسلسل فواصل إعلانية مساحتها الزمنية أكبر من المسلسل نفسه. وجدت نفسي أشاهد خمس دقائق من المسلسل ثم سبع دقائق من الإعلانات وهكذا على طول المسلسل، ووجدت نفسي أنسى ما أشاهده، وليس هكذا تُعرَض الدراما أبدا. المسلسلات فرصة للإعلان حقا ولكن يكفي مرة واحدة ولدقائق قليلة لا أن يكون زمن الإعلانات أطول من زمن المسلسلات.
٭ روائي مصري
إبراهيم عبد المجيد