علاقة الدين بالدولة أطول مناقشة ملتبسة في التاريخ العربي الحديث، السبب ـ في ما يبدو ـ هو الجهل بأحد طرفي العلاقة، والتصميم على انتزاعنا من سياقنا، ودفعنا للسكنى في سياق أوروبي غربي، نظر إليه بوصفه السياق المعياري الذي يقاس عليه. فالذين يريدون دفعنا إلى دولة دينية، مثلهم الأعلى هو أوروبا العصور الوسطى، والذين أرادوا الدولة العلمانية، فضلوا القياس على أوروبا العصور الحديثة، بعد دفع الكنيسة إلى ما وراء أسوارها.
والخلل ـ ربما الخطل ـ ظاهر هنا، فسيرة الإسلام ليست كسيرة المسيحية في العلاقة بالدولة، لا في طبيعة العقائد، ولا في دورات التاريخ، الأصل في المسيحية صاغه السيد المسيح نفسه، حين أراد اليهود توريطه، وسألوه عن مدى جواز دفع الجزية لقيصر روما، فطلب منهم المسيح أن يرونه معاملة الجزية، وأعطوه قطعة عملة نقدية، فسألهم لمن هذه الصورة والكتابة على العملة يا مراؤون؟ فقالوا لقيصر، وكان رد المسيح التلقائي «إذن أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، وهو ما يعنى الفصل التام بين سلطة الروح وسلطة الزمن، كتقليد تعرض للاختلال في ما بعد، وزحفت سلطة الكنيسة لتستولي على السلطة الدنيوية، وملكت الأراضي والبشر والثروات والسلطات، بدعوى أن الروح هي الأساس، وهو ما أدخل التاريخ الأوروبي في عصور الظلمات لمئات السنين، إلى أن جاء عصر النهضة الأوروبية، وعاد بعدها الشيء لأصله، وجرى الفصل التام بين الدين والدولة، وتكون طراز الدولة القومية العلمانية التامة.
وفي سياقنا العربي الإسلامي، كانت القصة مختلفة تماما، فلم يعترف الإسلام أبدا بسلطة دينية، اللهم إلا في تفسيرات لها ظروفها التاريخية عند قطاع من الشيعة، باستثناء دولة المدينة في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي دولة قادها نبي يوحى إليه، بعدها لم تصح دعوى دينية أبدا لحاكم أو خليفة أو سلطان أو أمير للمؤمنين. وحتى الخلفاء الراشدون الأربعة، الذين حكموا بعد النبي لثلاثين سنة، فكانوا جميعا من طراز القادة الدنيويين، فما بالك بمن أعقبهم، وكان جلهم أبعد عن أي ادعاء بمكانة الصحابة الأولين، وكانت الولاية على الأغلب لمن غلب بسيفه، ودار الحكم على الحاكمين إيجابا وسلبا بما فعلوه، وبطرقهم في الإدارة والحكم، وبأقدار انفتاحهم من عدمه على العقل والعلم والترجمة والإبداع في فنون الدنيا، ولم يكن ذلك غريبا عن سيرة الإسلام نفسه، وقد وضع النبي محمد القاعدة الذهبية للحكم من أول لحظة، وصاغ في حديث ورد بالصحيحين (البخاري ومسلم) قاعدة التمييز الدقيق بين ما هو دين وما هو دنيا، وقال صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
وحتى في دائرة النصوص المقدسة الملزمة ذاتها، فقد أقدم خلفاء النبي الراشدون على تصرفات مجتهدة في النصوص الدينية ذاتها، وعلى نحو ما فعل عمر بن الخطاب في نصوص «خمس الغنيمة» ومصارف الزكاة، فأوقف سهم المؤلفة قلوبهم في مصارف الزكاة، وأوقف سهمي الرسول وقرابة الرسول في توزيع «خمس الغنيمة»، ولم يلق موقف الخليفة الأعدل معارضة تذكر، إلا من المتضررين مباشرة، ومشت الدولة بالقانون الذي وضعه عمر بن الخطاب، وقد دارت التصرفات كلها في سياق ما يقود إليه العقل والاجتهاد الإنساني، وبدون أن يرمى بمروق عن الدين ونصوصه، فلكل حكم في الشريعة علة، يدور معها وجودا وعدما، ومع تطور الحياة البشرية وأساليب العيش وتغير الظروف، قد تزول العلة عن أحكام قطعية وردت في صلب النص الديني، من نوع أحكام العبيد والعبودية، وما ملكت أيمانكم، ومن نوع النص المقرر لجزية غير المسلمين في القرآن، فقد كان معمولا بالجزية لغاية وعلة مفهومة في القرون الوسطى، وهي أن غير المسلمين كانوا لا يؤدون واجب الجندية في الجيش الإسلامي، وكان اقتضاء الجزية مقابلا ماليا لعدم التجنيد، وهو ما اختلف أمره الآن بحسب اجتهادات لفقهاء معاصرين كبار، فقد صار الجميع على اختلاف أديانهم متساوون في أداء واجب الجندية، خصوصا في نظم التجنيد الوطني العام.
وهكذا نمت وتطورت عقلية مجتهدة في السياق العربي الإسلامي، لا تنكر الدور الإجتماعي للإسلام في حياة المؤمنين به، ولا تتنكر لمبادئ وثوابت الشريعة، بل تميز في وضوح بين معنى الدين ومعنى الدولة، وعلى أساس القاعدة النبوية المذكورة، وطبقا للتوجيه القرآني القائل لرسوله «وشاورهم في الأمر».
وثمة خلط لا يخفى بين معنى الشريعة المحدد ومعنى النظام الإسلامي الفضفاض المربك، فليس من اقتصاد إسلامي ولا سياسة إسلامية، ولا كيمياء ولا جغرافيا ولا هندسة ولا صناعة ولا زراعة إسلامية دينية من باب أولى، فكلها مواريث دنيوية تطورت بتعاقب دورات التاريخ الذي عاشه المسلمون وغيرهم، والمقصود هنا، أنه ليس من أصل ديني ملزم على نحو قطعي وحصري، فلم يرد عن الله أو رسوله أي نظام ملزم لتولي حكم المسلمين، وفي عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، ولي كل منهم الحكم بطريقة مختلفة عن الآخر، وبحسب الظروف المحددة لكل فترة، وكان الإمام علي ابن أبى طالب، كرم الله وجهه، وهو من هو حسبا ونسبا إلى جوار الرسول الأكرم، كان الإمام عظيم الوضوح في مسألة الخلافة والحكم، وفي غمرة حروب الدم التي دارت مع أنصار معاوية بن أبي سفيان، كان الإمام يقول «لقد التقينا، وربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا إلى الإسلام واحدة»، أي أن الصراع كله لم يكن دينيا بأي معنى، إنما هو سيرة الدول والممالك، وصدام الحق والظلم إلى آخر الدنيا، وعند الله الحساب الأخير العادل بلا شبهة. والمعنى المقصود هنا ظاهر، وهو أن التمسح بقشور دينية لا يعني ميلا إسلاميا بالضرورة، وكم من جماعات وفرق ارتزقت وترتزق بالخلط المشؤوم، وهو خلط لا يسنده الأصل الصحيح للدين، ولا يؤيده المعنى الصحيح لشمول الإسلام، فصحيح أن الإسلام دين ودنيا، لكن المعنى الدنيوي للإسلام لا يشمل الدولة وبنيانها بالتأكيد، ولا اختياراتها العامة والتفصيلية في الاقتصاد والسياسة، ناهيك عن كراهة الإسلام أصلا لأي ادعاء بسلطة دينية، فليس في الإسلام رجال دين، بل علماء ومتفقهون، يؤخذ منهم ويرد عليهم بغير حرج ديني، ما دامت قاعدة التمييز محفورة في العقول، فالشرع الإسلامي مصدره القرآن والسنة، وما جاء فيهما قطعيا في وروده ودلالته، والقرآن كله قطعي الورود بالبداهة الإيمانية، والأحاديث النبوية فيها ما يصح وما لا يصح، وحتى فيما يصح تماما من أحاديث، فقد تختلط الدلالات أحيانا، أي أن مصدر الشرع أولا في الآيات المحكمات بالقرآن لا المتشابهات، إضافة إلى الأحاديث الصحيحة المتواترة قطعية الدلالة، وتلك في مجموعها تكون معنى «الشمول الإلزامي» في الإسلام، وتضم العقائد والعبادات والأركان والنصوص الشرعية الملزمة في المعاملات، وبين ستة آلاف آية في القرآن الكريم كله، لا توجد سوى مئتي آية تتضمن أحكاما تشريعية ملزمة في الحياة الدنيا، بينها الحدود الأربعة المجمع عليها (حد السرقة ـ حد الزنا ـ حد القذف ـ حد الحرابة)، إضافة لنصوص الأحوال الشخصية والمواريث والوصية، وتقرير أحكام القصاص في القتل، وآية «أحل الله البيع وحرم الربا» في المعاملات الاقتصادية، وكلها تكون ما نسميه بالشريعة الملزمة، أو دائرة «الشمول الإلزامي» في الإسلام، وهي متداخلة بالضرورة مع دائرة أوسع نطاقا، مجالها الحياة الإنسانية المتنوعة باختلاف المكان والزمان، والمتسعة باطراد مع تعاقب الأجيال، وهي دائرة تفكير إنساني حر طليق، تربطه بنصوص الإسلام معاني توجيهية عامة، من نوع أولويات قيم التوحيد والمساواة والعدالة ومصلحة الأمة والاجتهاد الإنساني.
فليس في الإسلام مثلا نظام اقتصادي معين خارج الفروض الدينية، بل معان توجيهية، تستقبح أشياء وتستحسن أخرى، ويسرى الأمر نفسه على كل قضية مثارة أو تستجد في مآلات الحياة الدنيا.
والخلاصة في القصة كلها مرئية تماما، وهي أن العلاقة بين الدين والدولة في سياقنا مختلفة، فما من دمج ولا انفصال تام، وما من دولة دينية ولا دولة علمانية، بل تمييز ظاهر بين الدين والدولة، تمييز سلس بين «دائرة الشمول الإلزامي» المقيد بالنص قطعي الورود قطعي الدلالة، ودائرة أوسع متداخلة معها، هي «دائرة الشمول التوجيهي»، وفحواها قيم عامة ذات طابع حضاري وليست نصوصا دينية ملزمة، وبعبارة أخرى، فإن الأصل الإسلامي هو استقلال السياسة عن الشريعة في ما لم يرد به نص، مع الوعى بأن الشريعة محصورة بالأمر الرباني المباشر، وهي شأن إلهي ملزم للمؤمنين، ولا يجوز إدخال الاجتهادات الفقهية في معنى الشريعة، فالفقه شأن بشري، ولكل زمان ومكان فقهه، وبغير حرج في قبول أو إنكار أي اجتهاد فقهي، وقد لعبت المذاهب الفقهية المعروفة دورها في زمان بعينه، وتوقفت مجادلاتها وحلقاتها واجتهاداتها بأمر من الخليفة العباسي المستعصم قبل عشرة قرون وتزيد، وهو ما رتب تقادما وغربة لكثير من الآراء الفقهية، ودخولها في معنى البحث التاريخي لا الهداية الإيمانية ولا القانونية، فلم نعد بصدد مذاهب وأتباع، بل بصدد زاد فكري، قد تصح الاستفادة منه إثباتا أو إنكارا، وبصدد فتاوى تقادم عمر عدد لا بأس به منها، فضلا عن شذوذ بعضها من الأصل، وقد كان للفقهاء الكبار وضع الريادة في أزمانهم، ودفع بعضهم حياته ثمنا للدفاع عن رأيه، وعظيم تقديرنا لهم مع الإكبار، لا يعني أن تظل حياتنا أسيرة لفتاواهم، ما صح منها وما بطل، وقد وضعوا مبادئ عامة لإنزال الأحكام الدينية على الواقع، ووضعوا قواعد فهم استندت إلى الإجماع والقياس، وكان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي يفضل كلمة العقل على كلمة القياس، وفي عصرنا، صار الاحتكام لعقل المؤسسات لا لعقول الأفراد، وصارت الدولة كأداة حكم أكثر تعقيدا، وهو ما يستلزم تفكيرا جديدا، يضع حدود الفصل وعلامات الوصل ما بين الشريعة والسياسة.
كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
رايك واضح في فصل الدين عن الحكم و انا متفق معك تماما. المرة القادمة الرجاء الكتابة عن العسكر و السياسة.
وانا اتفق مع الأخ أبو عمر من إسبانيا في رجاء السيد قنديل ان يكتب في المرة القادة عن العسكر والسياسة .
أعتقد أنه مقال متوازن عن العلاقة بين الشريعة والسياسة, لكني أنتظر كأبو عمر مقالاً عن العسكر والسياسة!! ولا حول ولا قوة الا بالله
كلام جميل و كلام معقول. واضيف ان السياسة في بلادنا غالبا ما تستعمل الدين و تضع الدين في خدمة السياسة بينما يجب تنزيه الدين عن السياسة. و ان تكون السياسة في خدمة الدين ما أمكنها ذلك او فيما لا يتعارض مع الدين على الاقل.
مشكلتنا اليوم كأمة عربية هي تراجع مصر في كل المؤشرات. و بالتالي تراجع مكانتها و تنحيها او تنحيتها عن مركز القيادة في العالم العربي. و السبب معروف وهو طول الامد في غياب الحرية و الديموقراطية. و جاءت المصيبة الحالية في الانقلاب الذي اقتلع نبتة الحرية و الديموقراطية الناشئة و اودى بالبلاد الى اسوأ مما كانت.
العسكر و السياسة رجاءا
اضم صوتي الى من سبقوني: العسكر والسياسة لطفا!!
السؤال المطروح هو:
هل يخرج انقلاب العسكر على نظام حكم منتخب ديمقراطيا، عن دائرة ما سماه الكاتب ــ وهو مُحِقّ ــ : “دائرة الإلزام الشمولي” للشريعة؟؟
فالكلام في النظريات مهمّ، والكاتب مشكور عليه، لكن وصل القول بالفعل لا يقل أهمية..
سلام..
من أروع ما قرأت من مقالات. شكرا جزيلا أستاذ و زادك الله علما. أرجو أن تفيدنا بمقال عن العسكر و السياسة كما طلب الاخوة الكرام.
احسنت.. مقال متميز.. مفحم لبعض التيارات والفئات حتي انهم طلبوا مقال عن العسكر والسياسة… اما عن الانقلاب في مصر.. هذا كلام فاضي او حكي فاضي كما يقول الاخوة الشوام.. فمن يري ان مصر حدث فيها انقلاب هو صاحب تيار اعمي لا يري الا ما يجب ان يراه او مد قدمه فقط.. فاذا كان يونيو انقلاب فبالتالي يناير ايضا انقلاب.. تشابهت الظروف والسيناريو وانتصر الجيش لاراده الشعب بالمرتين.. ولكن يونيو لم تكن علي هواهم لذا فانها انقلاب… خسئتم وخاب مسعاكم.
وانا من هنا اضم صوتي ايضا حتي تزيد في افحامهم وتزيد من احراجهم.. فالتتكلم عن السياسه والعسكر.. ولا تنسي الممالك ايضا.. ولتحدثنا عن حرية الرأي في الاردن او حرية الرأي وتداول السلطات في قطر… ولا تنسي ان تحدثنا ايضا عن حرية تداول السلطه بمكتب الارشاد الاخواني..
يادكتور من فضلك كلمنا عن الواقع المصرى المعاش حضرتك بالنسبه لى بوصله فكريه ونبراس نهتدى به