دبلوماسية المال مزقت الأمة العربية

حجم الخط
2

دبلوماسية المال اصبحت نمطا ليس مقبولا فحسب، بل مطلوبا في العلاقات الدولية، وبذلك حلت محل الاعتبارات الايديولوجية الاخرى في التعامل بين الدول. وحتى الامس القريب كان للايديولوجيا السياسية دورها في توجيه علاقات الدول واقامة التحالفات، ولكن مرحلة ما بعد «الربيع العربي» وما تبعها من ظواهر خصوصا الإرهاب والطائفية والإسلاموفوبيا شهدت تطورا بنيويا على هذا الصعيد. فمثلا كانت مصر محور العمل العربي المشترك عقودا عديدة، ولم تكن تملك المال الذي تشتري به مواقف الدول، لكنها طرحت مشروع القومية العربية الذي جذب الدول العربية الأخرى لمواقفها، وأصبحت الهوية العربية عنوانا للعمل العربي المشترك الذي تصدرته الجامعة العربية.
وطرحت السعودية في مواجهة ذلك مشروع «العمل الإسلامي المشترك» من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي، واستطاعت احداث استقطاب جديد محوره الروابط الدينية بين أكثر من خمسين دولة في العالم. ولم يكن للمال دور كبير في نشوء تلك المحاور. اما الغرب فكانت علاقاته الدولية تنطلق من شعاراته البراقة: الحرية والديمقراطية، لمواجهة نفوذ الاتحاد السوفياتي الذي أسس علاقاته على المبادئ الشيوعية والاشتراكية. وكلا المعسكرين عمد لتثبيت اركانه بامتلاك ترسانة عسكرية جوهرها السلاح النووي الذي تم تطويره بعد الحرب العالمية الثانية. وربما كان للمساعدات المالية بعض الدور في كسب الاصدقاء للغرب، الا ان الانتماء لأي من المعسكرين كان قائما على اساس الهوية الايديولوجية لانظمة الحكم. في المرحلة الراهنة تغير الكثير من ذلك. وفجأة اصبح للمال النفطي دور في تأسيس انماط جديدة من العلاقات بين الدول. واصبحت دبلوماسية المال متفوقة على الانماط الاخرى بفاعليتها وتأثيرها السريع وربما المفاجئ احيانا.
وساهم في تعميق دبلوماسية المال عدد من العوامل اهمها ارتفاع اسعار النفط في العقد الاول من الالفية الحالية بمعدلات غير مسبوقة حيث بلغ سعر برميل النفط إلى اكثر من 120 دولارا.
ثانيها تراجع الاوضاع الاقتصادية في الغرب خصوصا بعد الانهيار في القطاع المصرفي قبل عشرة اعوام، وتصاعد عجوزات الدول ذات النزعة التوسعية وبسط النفوذ السياسي كالولايات المتحدة وبريطانيا.
ثالثها: تراجع دور الايديولوجيا السياسية في الحياة العامة. فغياب الشيوعية والاشتراكية عن المسرح السياسي اما بسقوط محور الاتحاد السوفياتي او عجز قياداته التاريخية (مثل فيدل كاسترو)، وضمور مشروع عدم الانحياز خصوصا بعد تفكك تشيكوسلوفاكيا التي كان رئيسها، جوزيف تيتو، من بين رواد ذلك المشروع، كل ذلك ساهم في تراجع دور الايديولوجيا في العلاقات الدولية.
رابعها: تراجع الغرب عن مشروعه الديمقراطي ونزوع انظمته لسياسات الحماية الاقتصادية وجنوح الدولة للتدخل في الحياة العامة، الاقتصادية وعلى مستوى الحريات العامة وتهميش حقوق الانسان، كل ذلك اسدل الستار على حقبة الحرب الباردة التي لعبت الايديولوجيا فيها دورا بارزا في العلاقات الدولية وظاهرة نشوء المحاور.
خامسها: الرغبة في الاجهاز على مشروع «الإسلام السياسي» بتضافر جهود الغرب مع انظمة الاستبداد في العالم العربي، الامر الذي دفع بعض الدول التي كانت رأس الحربة في محاربة ذلك المشروع للتغول والشعور بعظمة مفتعلة وقدرة وهمية على تجاوز كافة الخطوط الحمراء في التعامل مع الدول الاخرى، وكذلك مع شعوبها.
جاءت ثورات الربيع العربي محاولة اخيرة لاعادة التوازن لامة استضعفها حكامها وفرقوا شعوبها وارتهنوها للاجانب. وهنا تساقطت كافة الايديولوجيات المذكورة، فتضافرت جهود دول الغرب مع انظمة المنطقة للاجهاز عليها بكافة الوسائل. وهنا تشكل محور جديد مدعوم من الغرب بأجندة معقدة تشمل قضايا جوهرية عديدة. ويمكن تسمية هذا المحور الجديد بـ «تحالف 4+1» (السعودية، مصر، الامارات والبحرين + اسرائيل).
تضافرت جهود هذا المحور على اربعة محاور: ضرب الثورات العربية قاطبة ومنع التحول الديمقراطي باي ثمن، استهداف ظاهرة «الإسلام السياسي» بتجلياتها في إيران والحركات الإسلامية ذات المشروع السياسي، تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، والتطبيع مع «اسرائيل». ولتسهيل مهمة اعضاء ذلك التحالف سمح لهم بالعمل خارج «الممنوعات» تحت اشراف اسرائيلي مباشرة، وسمح لها بالعمل السياسي والامني والاستخباراتي خارج حدودها، خصوصا في الدول المستهدفة من الغرب والكيان الاسرائيلي. ولكي يمكن تحقيق ذلك لا بد من تفتيت العالم العربي واضعاف دوله الكبرى، مصر والعراق وسوريا واليمن. وهذا ما حدث خلال السنوات السبع الماضية. فلو كانت مصر قوية لما استطاعت السعودية السيطرة على الجامعة العربية ولما تصدرت العمل العربي المشترك ووجهته لخدمة اهدافها. ولو كانت سوريا او العراق متماسكة لما شعرت دولة الامارات بهذه العظمة الوهمية التي دفعتها لاحتلال بلدان اكبر منها وأعمق تاريخا وحضارة كاليمن. ولو كانت الجامعة العربية كيانا فاعلا لما استطاعت «اسرائيل» ممارسة عربدتها المكشوفة، بضرب سوريا والسعي لضم الجولان واستقبال الوفود الرسمية والرياضية من دول التحالف المذكور. ولو كان الوضع طبيعيا لما تمكن وزير خارجية البحرين ان يغرد بدعم العدوان الاسرائيلي على سوريا او غزة.
دبلوماسية المال اوجدت واقعا جديدا غير مألوف. فقد استطاعت إحداث تغييرات سياسية ونفسية في العالمين العربي والإسلامي تحول دون تكرر ظاهرة الربيع العربي، وتخلق قبولا لدى الرأي العام العربي بالواقع المر الذي من تجلياته التطبيع مع الكيان الاسرائيلي وشيطنة الدول العربية والإسلامية المستهدفة مثل إيران وقطر وتركيا وقوى المقاومة. دبلوماسية المال وفرت للامارات الفرصة لتبني سياسة توسعية غير مسبوقة، واستعداء الدول الجارة مثل سلطنة عمان وقطر والكويت وإيران. دبلوماسية المال الاماراتي والسعودي استطاعت وضع مصر، الدولة العربية الكبرى ذات الحضارة والموقف والاطروحات القومية الجامعة، تحت عباءة حكام الامارات والسعودية. هذه الدبلوماسية وفرت غطاء دبلوماسيا متينا لهذه الدول لممارسة سياسات قمع غير مسبوقة في المنطقة. فاستطاعت مصر ان تفلت من اية محاسبة او عقوبة لما اقترفته اجهزة امنها بحق معارضيها خصوصا من الاخوان المسلمين، وتصدر احكام الاعدام والسجن المؤبد بالجملة، وتمارس انتهاكات لحقوق الانسان على نطاق هائل. وفيما تم استهداف روسيا بدعوى محاولتها الفاشلة لاغتيال جاسوس مزدوج مع ابنته في مدينة سالزبوري البريطانية، لم يتم استهداف عسكر مصر عندما قتل الباحث الايطالي جوليو ريجيني قبل ثلاثة اعوام. هذه الدبلوماسية ارغمت القاهرة على تسليم جزيرتين مصريتين للسعودية بدون اعتراض حقيقي من احد. كما استطاع تحالف 4+1 اقناع الرئيس الأمريكي بكسر الاعراف الدولية بالانسحاب من اتفاق دولي استمرت المفاوضات بشأنه 12 عاما برغم اعتراض خمسة اطراف اساسية فيه على ذلك الانسحاب. دبلوماسية المال هذه استطاعت تطويع العراق للتطبيع مع دول ساهمت مباشرة بدعم الإرهاب على اراضيه، واستخدمت المال للتأثير على سير الانتخابات الاخيرة وربما تشكيل الحكومة المقبلة.
ولكن هل هذه الانجازات مهيأة للبقاء والاستمرار؟ الامر المؤكد ان الدول العربية الاربع في تحالف 4 +1 لا تملك قدرات ذاتية على الاستمرار بالدور الذي تمارسه في الوقت الحاضر، وهو دور مدعوم من قبل «اسرائيل» وأمريكا فحسب. فسياسات التوسع التي تنتهجها السعودية والامارات سوف تصطدم بمصالح الدول الغربية من جهة، وتؤثر سلبا على مصالح الدول العربية والإسلامية الكبرى من جهة اخرى.

٭ كاتب بحريني

دبلوماسية المال مزقت الأمة العربية

د. سعيد الشهابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    أنا اختلف معك يا د. سعيد الشهابي في تحليلك مع أنني أتفق مع العنوان (دبلوماسية المال مزقت الأمة العربية) لأن من وجهة نظري سببه ما توفر من مال عند معمر القذافي، بعد قبول شاه إيران بسبب تدخل الملك فيصل لدعم المقاطعة الاقتصادية بالإضافة إلى وقف امداده للأكراد كي يتسنى للجيش العراقي للمشاركة بريا في الجبهة السورية وجويا في الجبهة المصرية، بعد فضيحة دولة الحداثة بقيادة جمال عبدالناصر في هزيمة 5/6/1967 من أجل العمل على تحرير القدس والمسجد الأقصى على الأقل، فهذا ما حصل في حرب رمضان في 6/10/1973، فتم اختفاء أهم منافس للخميني في ليبيا (موسى الصدر) وبأموال ليبيا عاد الخميني على طائرة فرنسية ونزل من الطائرة يستند على يد قبطان الطائرة في رمزية رائعة، وتحويل أموال ليبيا إلى منافسه هي التي جعلت ساركوزي خسارة الانتخابات لصالح هولاند.
    العولمة (بدأت عام 1945) والاقتصاد الإليكتروني كذلك منتج أمريكي (بدأ عام 1992) يمثل خلاصة مفهوم المواطن الصالح في أمريكا (رجل أعمال)، بينما دولة الحداثة لثقافة الـ انا اولا ومن بعدي الطوفان هو منتج أوربي، يمثل خلاصة مفهوم المواطن الصالح (مقاول).
    أظن مثقفي وسياسيي دولة الحداثة لثقافة الـ أنا أولا ومن بعدي الطوفان، أساء قراءة سبب موقف الدولة العثمانية كما اساء قراءة موقف الإمبراطورية الصينية (السلبي) تجاه الجيل الأول من آلات الثورة الصناعية الأولى، وعلى أرض الواقع تركيا بمشروع الفاتح ومشروع القدوة السنغافوري كانا خلف الوصول إلى الجيل الرابع من آلات الثورة الصناعية في الحكومة الإليكترونية بعد نزول منتج شركة آي بي أم الأمريكية تحت مسمى (واتسون)، والذي به حول منطق الآلة من النظام الثنائي (0/1) (أبيض/أسود) (خير/شر) إلى منطق لغوي إنساني. في بداية عام 2018 أعلن بكل صراحة المقاول الأمريكي (ترامب) والمقاول الفرنسي (ماكرون) أعلنا توحيد جهودهم للسرقة، طريقة تنفيذ اقتصاد الأسرة (مشروع صالح التايواني) كشراكة وليس مقاولة، له شقين في التنفيذ، الأول تدريبي لأصحاب الحل والعقد من وزير ومحافظ ونائب ومن حولهم من كتاب مناهج الوظائف لأي وظيفة في الدولة، لمدة اسبوع أو خمسة أيام عمل لكل يوم مادة (الحوكمة، لوحة مفاتيح الأتمتة، الحرف، الكلمة، الجملة) لتحويل ثقافة الـ أنا أولا إلى ثقافة لغة الإنسان والاقتصاد أولا، لمن يبحث عن حلول اقتصادية لمشاكل الإفلاس بداية من الأخلاق والمال.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    لاحظت الكثير لم ينتبه إلى أن العراق ثار على نموذج دولة الحداثة البيروقراطي عام 1920 أول مرة، وفي المرة الثانية عندما تم وضع آل البيت كواجهة لنموذج دولة الحداثة عند ثورته قام بسحل حتى آل البيت في ثورته عام 1958.
    وعندما كان العراق تحت حكم صدام حسين، تم رفض دخوله مجلس التعاون للخليج العربي كما هو حال اليمنين عند تأسيسه عام 1980، لأختلاف النظام الاقتصادي الذي يحكم الدولة، وليس بسبب أي شيء آخر، بعد إيقاف الحرب العراقية الإيرانية في 8/8/1988، قام بتكوين اتحاد من الدول التي تحيط دول مجلس التعاون، ثم قام بإلتهام دولة الكويت في 4 ساعات في 2/8/1990، اضطرت دول مجلس التعاون طلب النجدة من أوربا وأمريكا لحماية دول مجلس التعاون في الخليج العربي، ومن أجل ذلك اضطرت تغيير حتى نظامها الاقتصادي، الذي الإنسان فيه لا يدفع ضريبة مقابل ذلك كرسي الحكم يتم تركه للعائلة الحاكمة، بعد أن أعلن جورج بوش الأب عام 1991 النظام الجديد للعالم تحت قيادة صندوق النقد الدولي (بقيادة أمريكا) والبنك الدولي (بقيادة فرنسا) ولا يمكن نقل أي ثروة أو مال بدون رقم سويفت من أمريكا، وتم وضع العراق تحت حصار ظالم، من أجل إسقاط نظام الحكم، ولكن العراق استغلها وأثبت أنه عندما يعتمد على الإنسان في الدولة، يمكن رغم الحصار الظالم، أن يُعيد الإعمار للصناعة والزراعة والخدمات والاقتصاد لكل ما تم تدميره في الحرب (أم المعارك/عاصفة الصحراء) في 18 شهر بأقل التكاليف، وتم سؤال (حسين كامل) عن تكلفة إعادة الإعمار، فأجاب تريلتين ورق وكم تنكة حبر.
    الرئيس عبدالفتاح السيسي أعلن أن موضوع الجزيرتين تم الاتفاق عليه عام 1991، مع الرئيس حسني مبارك وتم تأجيل إرجاعهم من حينها، فهذا يعني أن الرئيس محمد مرسي رفض إرجاعهم للسعودية عند استلامه الحكم في 2012. المطالبة بإلغاء الانتخابات رغم كل الامتناع عن المشاركة أو التزوير والفساد، كما حصل في انتخابات العراق عام 2018، كما حصل مع انتخابات مصر بعد 2013 فهل هناك معنى آخر للفساد والظلم أكثر من ذلك؟! محمد حسنين هيكل هو أبو الإعلام لدولة حداثة جمال عبدالناصر، أسلوب تفكيره مبني على مفهوم إن لم تستطع تحطيم الصنم في دولة الحداثة، فقم بالصعود على أكتافه لكي تشتهر. فضيحة هزيمة النموذج الثقافي المصري في 5/6/1967، تكرّر نفس هذا الأسلوب من أجل تفعيل الحصار على قطر في 5/6/2017، في رمزية عجيبة غريبة سبحان الله.

إشترك في قائمتنا البريدية