بمجرد التأمل في هذا السؤال أجدني واقعا في حيرة الجواب، لأن الكتابة باعتبارها تمرين الحواس على التقاط البهي والجليل في الذات والعالم، واجتراح طرق مغامرة من أجل التعبير عما يخامر الذات الكاتبة من هواجس، سواء بدلالتها التقليدية أو التجريبية، وكذلك مادام الكاتب يبحث عن الذي يجعل البياض مسوّدا بدم الجسد والعواطف والمشاعر، فإن الرغبة في اقتحام العتمات تظل الحافز للإبداع والسير بعيدا نحو المناطق الموغلة في الالتباس، وكشف جغرافيات منسية من الوجود والموجود.
من هنا تبقى الكتابة أولا انتصارا للحياة وللجميل والنبيل في الكون، وثانيا اتخاذ موقف من العالم يشكّل رؤية تعمّق الإحساس بضرورة الإفصاح عن المستور من هذه الذات المنذورة إلى الإقامة في عزلة قصيّة، ترتوي من معين التأمّل العميق لهذه الأصقاع الغامضة في النفس، والمنحدرات المفضية إلى عالم يفصح عن غابويته، حيث لا مجال للقيم الإنسانية التي ضحَّت من أجلها البشرية منذ وجود الإنسان على هذه البسيطة، وبالتالي يطرح سؤال الجدوى على الكاتب الذي كان يعدّ في اعتقاد الكثيرين أنه قادر على تغيير العالم، لكن الأمر لم يكن في مَحَلِّه، فليس من مهام الكاتب تغيير العالم، بقدر ما يروم تغيير طرق التفكير والعقول؛ حتى تستطيع تغيير الواقع بإرادة واعية ومدركة. وتلك سيرة الإبداع على مر العصور.
ليست وظيفة الكاتب ذات بعد رسالي، وإنما ذات مسعى وجودي، بعبارة أفصح فالكاتب يكتب كينونته الضائعة وسط جلبة عالم منذور للحروب والصراعات والممارسات اللاإنسانية، ووسط هذا الخراب ينقّب عن الأشياء التي بإمكانها إعادة وجوده المفتقد، الذي يشعر به وهو غريب الذات، منغمس في تفاهات حياة مادية، تحتفي بالظاهر وتنبذ الباطن، وبالكتابة يهرب من هذا المعطى ليشيّد عوالم متخيلة نبضها الذات والواقع بحمولاته المختلفة، وعليه فلا رسالة يحملها الكاتب إلا رسالة العبور، عبْر الأثر الذي يخلّفه سواء كان شعرا/ رواية/ قصة/ مسرحا/ تشكيلا/ موسيقى، هذه الرسالة العبورية ما هي إلا تحدّ لكل العراقيل الحياتية والنفسية، التي تقف سَدّا منيعا أمام ذات تحاول الخروج والتملص من دناسة الأرض، والسمو بها صوب سماوات الخيال والقيم الطافحة بالحب والإيقاع والجمال.
كما أن طرح هذا السؤال نابع من الإبدالات الرهيبة والمفاجئة للذات وهي تواجه العديد من الإشكالات، التي لها ارتباط بهذا الانحطاط الوجودي، لمجتمع لم يستطع الخروج من دائرة الاجترار وإعادة الماضي، بلبوسات أكثر رجعية وظلامية مما سبق، إضافة إلى ما يجري في الرقعة العربية من حروب قوّضت كل الأحلام بعد أن تم القضاء على الشعور بالانتماء العربي، وغدا العربي خارج التاريخ والأسئلة، منهمكا في خيباته المتتالية وانكساراته القاصمة لكل أمل في العيش بكرامة وحرية، هذا الوضع فرض على الكاتب أن يعيد النظر في كل اليقينيات والأحلام التي آمنت بها أجيال، سَامَتْ من الانكسارات الشيء الكثير، من أجل كتابة تؤرخ للوجع العربي الممتد من ماء الغرب إلى دم الشرق، من هنا تبدأ مسيرة الكتابة الخارجة عن السِّرْب الرجعي، للتعبير عمَّا يُقلِق الذات ويربك ثوابت الفكر المتنور، الذي يُحارَب في كل المجالات والمؤسسات، ويُحَارِبُ عَلى كُلِّ الجبهات، فحتى المؤسسة الجامعية عرفت ترديا جليا في البحث العلمي وخلق الطالب المفكّر والمُجَادِل، المستفّز والمجدّد الخالق، والتراجعات المخيفة في قطاع التربية والتعليم، كل هذا زاد من تأزيم الكاتب ودفعه إلى فوهة المواجهة الشرسة مع الثقافة الصنمية، التي تبذل قصارى جهدها في إبداع كل وسائل التضييق على كل فكر حُرّ ومُنتقد، وفوق هذا كله وضعية الأدب أو الثقافة، التي تتّصفُ بالشللية والغياب التام في الكثير من الأقطار والارتكاسية والنكوصية، إذ أصبحت ثقافة التسطيح هي السائدة والمهيمنة، وبعبارة أجلّ ثقافة الضحالة والتفاهة هي سيّدة الواقع، بوساطة أجهزة الإعلام بكل أصنافه، حيث الرداءة الميسم الواضح.
وعندما نثير مثل هذه الأسئلة الحارقة والمضنية؛ فهي منبثقة من الاحتراق الحياتي والوجودي والشعور بالعدمية، التي تستحوذ على التفكير، فالعدمية هنا لا تعني السقوط في العبثية، وإنّما المقصود بها غياب المعنى، وحين يغيب المعنى في الوجود تسود اللاجدوى. وفي اعتقادنا هذا ما تحاول الكتابة تجاوزه بالاحتفاء بالدلالة/ المعنى كمقوم من مقومات الوجود، وبها تتجدد سيرورة الحياة وتحقق بذلك صيرورة تتعمّق الإحساس بالكون. ما يدلّ على كون الحركية التي تميّز الحياة عبْر الإبداع الحقّ والنابض بالاجتراحات المختلفة، التي تكشف عن حقيقة الكائن في ظل ما يجري من مفاجآت على صعيد الفكر والمجتمع. الشيء الذي يدفعنا إلى التأكيد على أن الكتابة المؤمنة بالصنمية كتابة مآلها الامّحاق والزّوال، عكس الكتابة القائمة على النقد والخلخلة كتابة تنتمي إلى الديمومة الإبداعية. والمتبصّر في ثقافة الآخر يدرك ما أرمي إليه، حيث الفكر الحر يولّد إنسانا مستقلا وفاعلا، منتجا ومساهما في تشييد حضارة جديدة، حضارة لا تعرف التراجع بقدر ما تفتح أفقا للخلق، وتسهم في إعادة إنسانية الإنسان المفتقدة، في سياق العولمة الجارفة والهيمنة الخطيرة للوسائط الرقمية رأسمالية متوحّشة حوّلت الإنسان إلى جسد بدون روح أي بدون قيم، ممّا كان له التأثير الجلي على دور الكتابة وجدواها، لأن ما تشهده الحياة المعاصرة من تسْييد لِلْبَدْوَنَةِ التي تقْضِي على روح الابتكار، وإضافة كل جديد، حيث نجد بَدْوَنَةَ ثقافة التمييز العِرْقي والمذهبي، وبَدْوَنَةَ الإرهاب بشتى تمفْصُلاته وتجلّياته، المتمثل في إشاعة الفكر الظلامي بطريقة همجية، تضرب جوهر الأديان، أكثر مما تخدمها، فالنظام الغابوي المنتشر اليوم، نَجَمَ عن أزمة الرأسمالية الهجينة، التي حوّلت العالم إلى مادية مقيتة تقتل الجوهري في الإنسان. أما في العالم العربي فالإنسان مغيب، بفعل المناهج التربوية التي لم تنتج غير أجيال تفتقد إرادة الإبداع والخلق، وتلك مصيبة ما أبلغها من مصيبة. كل هذا يفرض علينا جدوى الكتابة التي تعرّضت لحروب ضروس من أهلها أولا، من خلال نهج تحقير اللغة الأم، والتشبّث بقشور حداثة معطوبة، بتعبير الشاعر محمد بنيس، كانت علّة من عِلَل تخلّف الأمة، وعندما تتخلف الأمة فطبيعي أن ينعكس ذلك على حياة الإنسان والإبداع.
ورُغْمَ هذا الوضع الكارثي يستطيع الكاتب الحامل لرؤية وموقف واضحين تجاه العالم؛ مواجهة هذه الشللية الحضارية بإبداع ثقافة الأمل، ثقافة الحياة، ومناصرة الفكر العقلاني الحر، وثقافة مُتخلّقة من رحم العقل المتنور. العقل الذي به يتمّ التمييز بين ما يجعل المجتمع يرقى إلى مصاف المجتمعات المتقدّمة والمجتمع الهاوي في حفرة التقليد والعماء. وعليه فهذه الأمور تستدعي مثقفا مؤمنا بأحقية الإنسان في الاحتفاء بالجمال والبهاء، وفي الدفاع عن حقّه في حياة سليمة من أعطاب الحروب والخراب، حياة تقود البشرية قاطبة إلى مجابهة معالم الظلم والجَوْر، الاستبداد والتسلّط، عن طريق المحبة والعدالة بشتى توصيفاتها، وإشاعة لغة القلب والعقل، بعيدا عن لغة الرصاص والقتل. قريبا من نسْغِ الحياة والتّرحال في الأبدية.
على هامش النص:
مَهْلاً اَيَّتُهَا اللُّغَةُ اِنْتَظِرِينِي قَلِيلاً
حَتَّى أَنْفُضَ عَنِّي غُبَارَ الْمَعَاجِمِ الْقَدِيمَةِ
أَطْرُدَ اللَّيْلَ مِنْ الْكُتُبِ الصَّفْرَاءِ
الْمُؤَرِّخِينَ الْكَذَبَةَ مِنْ تَارِيخِ الْعُمْيَانِ
الرِّوَايَاتِ الْمُزَيَّفَةَ مِنْ لِسَانِ الْأَطْفَالِ
وَاُعَانِقَ نَهَارَ الْحَيَاةِ
صَانِعاً لُغَتِي
لُغَتِي حَنِينِي لِلْآتِي
شُعْلَةٌ تُضِيءُ سَمَاوَاتِ الْمَجْهُول
بَحْرٌ لا تَسْتَوِي عَلَيْهِ سُفُنُ الرِّمَالِ
لُغَتِي سِيرَةُ الْمَشَّائِينَ صَوْبَ الشَّمْسِ.
٭ شاعر من المغرب
صالح لبريني