كثير من المفاهيم التي استقرت عندنا ما استقرت لأنها ذات أسس ثابتة، بل لأننا لم نثر حولها شكوكا ولم نطرح حولها أسئلة؛ فيكفي أن نفكر فيها حتى تكون المتاهةُ الفكريةُ. للتيه الفكري هنا قيمة لأنه يجعلنا نضع ما اعتقدنا أنه من الثوابت موضع سؤال، في العلم لا توجد ثوابت إلا في وقت ومكان معينين.
تعلمنا من الدرس البلاغي كيف أن المعنى المجازي للكلم هو معنى مقابل لمعناها الحقيقي، وكيف أن المعنى الحقيقي هو المعنى الأول الذي تواضع عليه الناس أول مرة، وأنه من الممكن أن ينعدل المعنى عن أصل ما وُضع له واستعمل فيه ويَعْبُر إلى معنى آخر هو المعنى المجازي. ويقول البلاغيون إن «الوضع تعيينُ اللفظ للدلالة على معنى بنفسه» (القزويني، الإيضاح، 152) ؛ فقولنا (أسَدٌ) إذا أردنا به المعنى الحقيقي استعملناه في ذلك المعنى الذي لا نحتاج لفهمه إلى قرينة؛ غير أننا نحتاجها إذا استعملنا لفظ (أسد) في معنى الشجاع الباسل فنقول (زيد أسدٌ) ليكون لفظ أسد هنا مجازا لقرينة إسناده إلى عاقل هو زيد. بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي علاقة تتمثل في أن المعنى الثاني عادة ما يكون مجردا والأول محسوسا، فالعقل يعني في الحقيقة إحكام القيد في معناه الأول ومنه عقل الدابة بمعنى «أن تضم رسغها إلى عضدها وتربطهما معا بالعقال لتبقى باركة». وسمي العقل عقلا لأن فيه معنى إحكام القيد وحسن التدبير والروية.
حين أقول «الأسد في الغابة والنعامة في الصحراء» فأنا استعمل أسدا ونعامة لتعيين حيوانين معروفين في الخارج؛ لكني حين أقول (أنت أسَدٌ في السلم وفي الحُروب نعامة)، فمن المعلوم أني أنتقل بهذين الاسمين من الاسمية المحض إلى الوصف بالاسم؛ وهذا ما أثر في إدراكنا للاسمين: فالإدراك مع المجاز ينصب لا على الحيوان بما هُو نوع من الحيوان، بل على الحيوان بما هو صفات ثقافية ترسخت في أذهاننا؛ إنها درجة من الترميز الثقافي وليس كما في الأول درجة من الترميز العلامي؛ هو انتقال من دائرة دلالية إلى أخرى تقوم هي أيضا على مواضعة ثقافية معللة، وليس على مواضعة لغوية اعتباطية. فللأسد في اللغة مواضعة اعتباطية لأنه لا شيء يبرر في العربية أن يطلق اسم أسد على ذلك الحيوان، ولكن الأسد اكتسب ثقافيا اتفاقا على أنه سيد الغاب، وأنه باطش وأن من تسمى به اكتسب هذه السمات بالمشابهة.
ومن جهة أخرى، ارتبط مفهوم المجاز في علاقته بالحقيقة بفكرة الحقل المعجمي ذلك أن (عقل) الدال على الربط والشد بالعِقال – وهو معنى حقيقي- والعقل بما هو أداة الإدراك يَمْثُلان في مدخل معجمي واحد، وبينهما ضرب من التقارب الدلالي بين المعنى المادي الأصلي والمعنى المجرد؛ وهذه اعتبارات تصنيف معجمية. لكن يختلف الأمر في الاستعمال فالعقل والأسد في المعنى المجازي يعبران عن طريقة في بناء المعنى تختلف عن الطرق الأخرى؛ فأنا أستطيع أن أقول لرجل (أنت شجاع) فأصف ما أدركته لديه من كوْن يقوم على ما وصفته به، من غير أن أجنح إلى أن أبين تجربة الشجاعة بالاعتماد على تجربة القوة الحيوانية التي لا تنكسر حين أقول أنت أسد. وإذا كان لي أن أقول (أنت شجاع) في أي وقت شئت، فإن قولي (أنت أسد) قد يقبل في ثقافة ولا يُقبل في أخرى. اليوم لا يقال لصاحب البأس أنت أسد، إذ ذابت هذه الرمزية الثقافية وقل إدراك قيمة البطولة بالاعتماد عليها. لقد ماتت مجازية أسد لأن تواضعنا على قيمته الرمزية زال، إما لأن لنا قيما رمزية أخرى دالة على الشجاعة، وإما لأنه لا قيمة لهذا المفهوم المادي اليوم، فالشجاعة صارت شجاعات في السياسة بالمعارضة وفي التعبير بالقدرة على التعبير عما لا يجرؤ عليه الآخرون. في هذه المعاني لا قيمة للأسد في هذا السياق الرمزي.
ومن جهة أخرى، فإن المجاز في الكلام ليس أمرا كليا كما نفهم ذلك من معناه التقليدي. فعبارة (مفتاح) في العربية إذا ما استعملت في معنى الآلة (مفتاح الباب) عدت حقيقة، وتعتبر مجازا في استعمال من نوع (الصبر مفتاح الفرج). لكن تأمل الاستعمالين الحقيقي والمجازي بتريث، وبمراعاة السياق الثقافي يجعلنا نرى في الاستعمال الواحد حقيقة من جانب ومجازا من آخر. فالمفتاح الذي يفتح الأبواب هو الآلة نفسها التي تغلقها. ولكنه سمي مفتاحا بمراعاة حركة الفتح بدون الغلق يسمى هذا في العربية «تغليبا» لأننا غلبنا اعتبار الفتح وبه سمينا الفتح والغلق. صحيح أننا تواضعنا على المفتاح بهذا الاسم، سواء إن أغلق أم فتح لكن الاكتفاء بالقول إنها مواضعة وكفي لا تقنع فبطرح إدراكي مهم يمكن أن نقنع: أن الفتح والغلق يتم بآلة واحدة ولذلك كانت له تسمية واحدة.
في الاستعمال المجازي نستعمل مفتاح في معنى الفتح دون الغلق؛ ففي عبارات من نوع (الصبر مفتاح الفرج) و(الإيمان مفتاح الجنة) و(العين مفتاح القلب). فالمفتاح الذي لا يختلف البلاغيون في أنه مجاز في هذا الاستعمال، صار معناه أحاديا حقيقيا، إذ لا يعني إلا الفتح، ولكن في سياق غير مادي. صحيح أن المفتاح المادي لا يفتح القلوب لكنه يقلل نسبة التجريد في معاني الصبر والفرج، فهو يجعل هذه المعاني أقرب إلى المعنى المحسوس. نحن نستخدم الصورة الخطاطية للمفتاح المادي في فهم شيء معنوي صار أقل معنوية لأنه بات كالمفتاح هو الصبر. إن عقلنا يعمل باستعمال خطاطة المفتاح: شيء ما يمكن أن يكون مفتاحا حتى إن كان ليس كالمفتاح المادي ولا يكون له مرجع ملموس.
ولفظة مفتاح في قولنا (الصبر مفتاح الفرج) التي حَسْحَسَتْ مفهوميْن مجردين: الصبر والفرج، هل يصح أن نعتبرها مجازا في علاقتها الذهنية بالمفتاح المادي؟ أم نعتبرها لفظا يقرب الكلام من الحقيقية والمرجعية الملموسة وهي تعمل في الكلام ما عملت؟
لو نظرنا إلى المثال (أغلقت الباب بالمفتاح)، فإن (المفتاح) يحتاج شيئا كثيرا من الاعتباطية، لكي ننسى العلاقة بين الفتح والمفتاح؛ نحتاج أن نلغي الرابط المبرر بين الفعل فتح واسم الآلة مفتاح ونتناساها حتى نفهم بتجربتـــــنا أن المفتاح يغــــلق أيضا. وما يقال عن المفتاح يقال عن بعض الأفعال التي ترتبط به ففي مثال (أحتاج ألــــفَ مفتاح لحــــل مشــــاكلي)، فهل أن عبارة (حل) هي مجاز بناء على السياق الذي وردت فيه؟ أم بناء على معنى وضعي مادي لا يستعمل في الفصحى؟ ليس للبلاغيين جواب عن العلة وراء عدم استعمال (حل) في معنى فتح المادي، رغم أنه يستعمل في اللهجات. هل يعلم البلاغيون أو الدلاليون لمَ يُقال (حل المجلس وحل الحكومة) ولا يقال حل الباب، بل فتح ولا يقال فتح الحكومة؟ ليس في المسألة أصل للوضع ومعنى مادي، بل في المسألة شيء إدراكي مرتبط بكيفية بناء المتكلمين للكون: وما الاعتباطية أحيانا إلا تعليل لعجز العلة عن أن تظهر.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
في قولك : { بل في المسألة شيء إدراكي مرتبط بكيفية بناء المتكلمين للكون: وما الاعتباطية أحيانا إلا تعليل لعجز العلة عن أن تظهر} استوقفني رأيك بين قوسين!! بالنسبة للغة العربية في أسلوبها الخبريّ والإنشائيّ ومعهما المجازيّ ؛ لا يوجد عجزفي ظهورالعلّة.فالكلام العربيّ في اصطلاح علماء المعاني على نوعين الخبر؛ وهوالذي يحتمل الصدق والكذب لذاته.مثل قول الشاعر: { أصحابنا المتمردون خيالهم… تقضي قريش به وتحيا حميرُ}.والخبرعلى نوعين ( طلبي وغيرطلبي ).والثاني : الإنشاء.وهو ما لا يحتمل الصدق والكذب لذاته.مثل قول الشاعر: { لا تكلّم إذا السيف نبا…صحّ مني العزم والدهرأبى }.أما المجازفيقع ضمن علوم البلاغة من البديع والمعاني والبيان.
وهوكثير.كمثال واحد نقوله : { وافاك سائل دمعه…فزدته في الحال نهرًا }. ونهرًا من الانتهاروليس من النهرالجاري.ففيه تورية وهي تقع في قلب المجاز.ياسيدي في اللغة العربية ( الحقيقيّ والمجازيّ ) لا يوجد شيء اسمه تعليل لعجزالعلّة.هي لغة تقوم على الجذرالرياضيّ ؛ لا الجذراللغويّ اللسانيّ المجرد.فهي لغة دقيقة ؛ لكن بعدنا عنها جعلنا نتوّهم أنّ هناك تعليلًا لعجزالعلّة.لست مختصًا باللغة العربية ؛ لكن أقولها للحقيقة ؛ رغم التباهي اليوم بالمهارات اللغوية لجيلنا ؛ فليس كالعربية الأم والأب فهي لغة الحنان والمروءة والنسب.قبل سنين عديدة في أول الشباب وأنا أدرس بعد الإنكليزية لغات أخرى ؛ قررت دراسة اللغة العربية ( على أصولها ).هالني الأمر… إنها لغة رياضيات بكلّ ما تعنيه الكلمة.وليست مجرد ثرثرة فوق الرمال.إنها لغة تقدمية حضارية ؛ وهذا هوسبب غربتنا عنها ؛ لأننا الآن لسنا تقدميين ولا حضاريين.بل نتوّهم أننا باللباس الأوربيّ والتشدّق بالمفردات ( الأفرنجية ) أصبحنا متحضرين.الحضارة تبدأ من اللسان لتنتهي إلى الجنان ؛ وإلا سيكون الجنون.ومن أجل ذلك نشرت كتابًا بعنوان ( هندّسة القرآن ).فيه رؤية مشتركة بين لغة القرآن والرياضيات ؛ من خلال الجذر اللغويّ للمفردة.فعندي الفعل الثلاثيّ والرباعيّ والخماسيّ… دلالات رياضية رقمية بحتة.بعد دراستي الإنكليزية والفرنسية والتركية والعبرية ؛ وجدت نفسي في لغتي العظيمة من دون تعليل لعجزالعلّة ؛ كأنني العاشق المعلول فأين صاحبة تلك العلّة ؟ كي تأخذني إلى متاهات المجازبحنان فتشفني كموسى الكليم من رتّة اللسان.ومبارك عليكم رمضان.