التجديد والتبديد

كلمات وعبارات كثيرة تفقد معناها من تردادها طوال الوقت، بينها عبارة «تجديد الخطاب الديني»، وقد صارت نوعا من الفولكور في الخطاب السياسي المصري، وبدون أن يعرف أحد ما هو المقصود بالضبط، فلا أحد بالطبع يريد المس بالدين، لا بعباداته ولا عقائده ولا شرائعه ولا بأحكامه، بل يحدثونك غالبا عن التفاسير، واتجاهات التفكير الديني البشري، وهي متغيرة بطبيعتها مع اختلافات الزمان والمكان، ومع ميول السياسة بالذات.
وقد تكون الدواعي مفهومة، فقد دامت سيطرة متفشية على مدى عقود لطريقة التفكير السلفي، وضمت تيارات متعددة، أولها وأكبرها حجما كان جماعة الإخوان، وقد نشأت في مصر قبل تسعين سنة مضت، وكان مؤسسها الأول حسن البنا، طاقة تنظيمية هائلة، لكنه لم يكن مفكرا ولا فقيها من وزن ثقيل، وكان همه الأول تجميع وتنظيم الأنصار، وصياغة هياكل تنظيمية متينة، رأى أن كثرة الكلام في الأفكار والبرامج قد يعوق تضخمها، وكان ينصح بالابتعاد عن التفاصيل، ويرسم صورة غامضة لتنظيمه دينيا، فقد كان يتحدث عن الإخوان بوصفهم «جماعة سلفية» و»طريقة صوفية» في الوقت نفسه، رغم ما هو معروف من اتساع البون بين التفكير السلفي والتفكير الصوفي.
ودخلت جماعة الإخوان بعد اغتيال البنا في غمار السياسة، وخاضت صداما مميتا مع ثورة يوليو، وطريقة تفكير قائدها جمال عبد الناصر، ثم مال السادات من بعد عبد الناصر إلى توظيف الإخوان، وأفسح لهم المجال للخلاص من الناصريين واليساريين، وهكذا كانت الولادة الثانية للإخوان، في مناخ «انفتاح السداح مداح»، وتضخم الثروة البترولية الخليجية، التي صاغت هدفها في الانتقام من ميراث عبد الناصر، والقضاء على الثورة المصرية، وحركة التيار القومي العربي، وطبعت الولادة الثانية للإخوان بطابعها، وبفوائضها المالية، وكان التحول حاسما، فقد زاد وزن المؤشر المالي في قيادة الإخوان، وعند القواعد المتحمسة دينيا، زادت وتأصلت النزعة السلفية، خصوصا مع تضاعف نمو تيارات سلفية على يمين الإخوان، بينها تيار السلفية الجهادية في تنظيمي «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية»، وتداخل وجود الإخوان مع «الجمعية الشرعية» السلفية، التي نشأت تاريخيا قبل جماعة الإخوان نفسها، إضافة لجماعات سلفية وهابية صريحة، بينها جماعة «أنصار السنة المحمدية»، و«الدعوة السلفية» القريبة تقليديا من أجهزة الأمن والمركز الوهابي السعودي.
وكان التحول السلفي في مصر، على ما فيه من مزج بين الوهابية وأفكار سيد قطب عن المجتمع الجاهلي، كان التحول في حركته متصلا بتحولات السياسة في المنطقة كلها، وبإشارات وتوجيهات وأوامر أمريكية وغربية، اعترف بها أخيرا محمد بن سلمان ولي العهد السعودي الحالي، وانتهى إلى عشرات الصيغ واختلاط الشعارات، والتحول المرن على طريقة «الباب الدوار»، في مزاج قواعد الجماعات إلى التشدد والعنف، وعلى نحو ما بدأ أولا في مصر، ثم سرى وطبع بطابعه ما يقال له الحركات الإسلامية في مشرق العالم العربي ومغاربه، ثم في العالم الإسلامي كله، وإلى أن انتهينا إلى تحول دموي مفزع، كان قانونه الظاهر هو «الدعشنة» المتزايدة، أي التحول الدائب من «السلفية» إلى «الإخوانية» إلى «القاعدة» إلى «داعش»، وإلى حد بدت معه «داعش» كأنها أعلى مراحل التطور السلفي، وربما لم يفلت من المصير الداعشي تماما، سوى بعض جماعات مغاربية، تتبنى قياداتها نوعا من «الإسلام الأوروبي»، وتتحدث عن الليبرالية والخصخصة الاقتصادية بأكثر من تذكر الأصول الإسلامية.
ما هو ـ إذن ـ التفكير المقابل الذى يتبناه دعاة تجديد الخطاب الديني؟ ربما لا شيء محدد سوى دعوات إلى مناهضة خطاب التكفير فالتفجير، وفي هذا تعقد المؤتمرات، وتصدر الكتيبات، وتدور الحملات المهرجانية الطابع، فقد تحولت حكاية التجديد إلى «سبوبة» بالتعبير المصري الشائع، فثمة مخصصات مالية هائلة، وصفوف من المشايخ مستعدة لنيل الحوافز والمزايا والأجر الحسن، وعلى نحو يذكرك بهوجة ضخمة جرت في مصر قبل ثلاثة عقود وتزيد، كان عنوانها المفضل «التنمية الإدارية»، وكانت دعواها هي الإصلاح الإداري، وأدواتها مؤتمرات وورش تدريب في الفنادق والمقرات الضخمة، وأنفقت فيها عشرات المليارات من الجنيهات، وعرفت نجوما وقادة، من نوع عاطف عبيد رئيس الوزراء المصري الأسبق في عهد المخلوع مبارك، وكانت النتيجة ـ على ما تعرف ـ صفرا كبيرا، وهو ما نخشى أن تنتهي إليه «هوجة» تجديد الخطاب الديني، أي إلى التبديد المالي وتخمة المشايخ، وربما تبديد الدين نفسه، والعبث بمرجعيته الحاسمة في النفوس، رغم أن مصر تملك أهم جامعة دينية في عموم العالم الإسلامي، وهي جامعة الأزهر الشريف، ونزعتها العامة وسطية «أشعرية» الطابع، وهي تدرس كافة المذاهب والآراء الدينية، ولها موقف مبدئي رافض من الغلاة والخوارج وظواهر التشدد السلفي، لكنها مثقلة بمواريث عقود من التحكم المالي الوهابي السعودي، وبأجيال من المشايخ ذوي النزعة المنغلقة، وبمناهج تدريس لم تجر تنقيتها بالكامل إلى الآن، وشيخ الأزهر الحالي أحمد الطيب له نزعة صوفية وأشعرية مختلطة، ورغم مقامه الجليل كعالم دين، وبعض مواقفه المميزة الأخيرة، فقد أتى الطيب من عالم السياسة، ومن قيادة حزب المخلوع مبارك، وربما كانت نزعته الصوفية مواتية لرأس حكم يفضل النزعة الصوفية، ويعادي بالطبع كل النزعات الإخوانية والسلفية الوهابية.
وقد جرى تحول في خرائط مصر الدينية الرسمية بالتداعي، قوامه إحلال النزعة الصوفية محل النزعة السلفية، بدت ظواهره ملموسة في خرائط البرامج الدينية، وفي الفضائيات الدينية بالذات، وصار لنجوم الصوفية من نوع الجفري وعلي جمعة حضور مؤثر، وكان الشيخ جمعة مفتيا للديار المصرية زمن المخلوع مبارك، وصار على رأس طريقة صوفية جديدة قام بتأسيسها، وقد تعرض جمعة لمحاولات اغتيال نسبت إلى جماعات الإرهاب، وعلاقاته قديمة وحسنة مع حركة فتح الله جولن التركية، وجمعة عالم دين من الوزن الثقيل، وأشرف على إعداد موسوعة كاملة تدحض تفكير جماعات التكفير، وبدا حضوره على الساحة ظاهرا جدا، ويترأس أكبر جمعية للعمل الخيري في مصر اليوم، تتلقى الحجم الأكبر من التبرعات، ويمتد نشاطها على خرائط القرى والمدن، وبموازنات جبارة، وهياكل تنظيمية وإدارية متشعبة، إضافة لنشاط جمعيات خيرية كبرى، تستثمر الوازع الديني، وتكون شبكات عمل ترحب بها الدولة، وكأنها طريقة لإحلال عمل خيري جديد محل سوابقه المنسوبة للإخوان والسلفيين، وكأننا بصدد إحلال من النوع نفسه تقريبا، يحل ثقافة التكافل الاجتماعي بديلا لاختيارات العدل الاجتماعي، وتلك نقطة لقاء جوهرية مرئية، بين ما كان ويكون، رغم حملات السلطات على الإخوان ومن شابههم، وإغلاق مئات من جمعياتهم صارت محظورة رسميا، فالبديل الصوفي لا يفترق كثيرا في الممارسة الاجتماعية عن الاختيار السلفي، وكلاهما يقوم على استنفار الوازع الديني الخيري، وصرف النظر عن غياب السياسة البديلة للظلم الاجتماعي.
نعم، لا يعد ترجيح الاختيار الصوفي تجديدا دينيا ولا يحزنون، فالصوفية نوع من التدين الشعبي في مصر، له أصوله الممتدة إلى الفولكلور الديني زمن مصر القديمة، وصحواته الأحدث في عهد مصر الفاطمية الممتدة إلى مئتي سنة، وقد نشأ الأزهر نفسه في الزمن الفاطمي، ثم جرى إغلاقه لوقت مع اجتثاث صلاح الدين الأيوبي للنفوذ الشيعي، ثم عاد الأزهر كأكبر قلاع التفكير السني، ومع نزعة متقدمة للاعتراف بالمذهب الشيعي الجعفري أواخر خمسينيات القرن العشرين، عبرت عنها فتوى الإمام محمود شلتوت أشهر مشايخ الأزهر في الزمن الناصري، وقد كان مجددا وارثا لسيرة الإمام محمد عبده، في ظل الثورة العرابية وما بعدها، وهو ما يلفت النظر إلى الأمر الجوهري في القصة كلها، وهو أن التجديد ينتعش في ظلال الثورات والتغيرات الكبرى، وأن التجديد مطلوب في المجرى الرئيسي للتفكير الإسلامي، وليس في تغليب نزعة صوفية على أخرى سلفية، وكلاهما نزعتان مشوبتان بالداء، رغم التعارضات والحروب الكلامية، ولا فرصة لتجديد ديني مؤثر بعيدا عن تجديد الحياة نفسها، فليست القصة في مواعظ وإرشادات دينية تجري في فراغ، ولا في بيان خلل وخطل نوازع التكفير والإرهاب، وكل ذلك قد يكون له أثر عابر موقوت، لكن الأثر الأبقى يصوغه التغير والتجديد في الحياة نفسها، فلا تغيير في التفكير بدون تغيير جوهري في اختيارات السياسة والاقتصاد، والإسلام في كلمة هو العدل، والسياسة العادلة والاقتصاد العادل هو الأساس، وتجديد التفكير الإسلامي لا يتم بدون إزالة الظلم السياسي والاجتماعي، وإحداث تغييرات حقيقية، تعطى الأولوية المطلقة للاستقلال الوطني والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الكاملة، وهذا هو التحدي الجوهري في السياسة كما في الدين، فالنهوض وحده هو الذي يشغل الناس عن القعود، وانتظار السلوى من تفسيرات دينية متخلفة ومضللة، تستثمر البؤس الاجتماعي في الترويج لنزعات الإرهاب، وتفيد من انسداد الأفق في تسييد خرافات تلتبس بالدين، بينما استخلاف الله للإنسان في الأرض يعني تكريم الإنسان أولا، وإعلاء قيم العدالة والتوحيد والعلم والعمل وحريات التفكير، وهذا هو الطريق الوحيد لتجديد ديني، لا يتحول إلى تبديد للدنيا التي هي مزرعة الآخرة.
كاتب مصري

التجديد والتبديد

عبد الحليم قنديل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد القادر الجزائر:

    ماذا جنت مصر من حكم السيسي قال احدهم : ان على مصر بعد السيسي ان تخوض ثلاث حروب عسكرية طاحنة حرب مع اثيوبيالاسترداد مياه النيل و حرب مع السعودية لاسترداد تيران و صنافير و حرب مع اليونان وقبرص لاسترداد حقول الغاز والنفط

  2. يقول فوزي رياض الشاذلي .......سوريا:

    شبه الاستقلال الذي هندسة الاستعمار الغربي قبل رحيله منذ قرن، وقبله تفشي الانحطاط في ربوع اوطاننا في أواخر عمر الهيمنه العثمانيه ، لم يتح للشعوب العربيه بلورة مشروع الدوله الوطنيه ، وان استثنينا مشروع الدوله الوطنيه العربيه المصريه ، القصير العمر ، الذي قاده جمال عبد الناصر ، الوطني النادر ، فان حالة الاستعصاء الثقافي والفكري والسياسي والاجتماعي ، وبجمله مختصرة الاستعصاء الحضاري ، مرده الاول والأخير ، هو تاءجيل محاكة التاريخ العربي الاسلامي بنقد عقلاني علمي وتاريخي ،كما فعل جمال حمدان في تناوله لشخصية مصر ، وبالطبع لايكفي ذالك ، وقد تكون المحاوله الخجولة لفرج علي فوده في كتابه الصغير “الحقيقه الغائبه” المحاوله الاولى لنزع الرداء الوردي المصطنع لتاريخنا الذي طالما تغطت به كثير من الدول والقوى والأحزاب لمنع قيام الدوله الوطنيه والتواصل الحضاري مع شعوب المعموره ، بالكتابة والثقافه والتصنيع والاختراعات، وحتى لا نظل تلك الامه التي تجتر وتستهلك من يصنعه الآخرون ومعاقه بحروبها الأهليه وانظمتها الاقلويه والبداءيه فوق ذلك.

  3. يقول الكروي داود:

    نقول له عسكر ويقول إخوان! أقلها أن الإخوان لم يسرقوا ولم يقتلوا ولم يعتقلوا أحداً ولم ينقلبوا على الشرعية!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول سمير فرنسا:

    ممكن حضرتك تحكي لنا عن العهدة التالتة لعضيم تورة يونيو السيسي…..عن الاف المعيبة في السجون …..عن القهر المساط عن شعب مصر ..

  5. يقول محمد منصور:

    ما تفضل به الاستاذ من محاولة احياء النشاط الصوفي ليس في مصر وحدها وانما في دول عالمنا الاسلامي ما أمكن فنحن نسمع عن نشاط اماراتي بهذا الخصوص وعقدت مؤتمرات في الشيشان فالموضوع ليس صدفه فهو قائم على دراسه وتخطيط وعندما نقول الامارات يعني تنفيذ مخططات صهيونيه فهو مشروع ترسم خطوطه في تل ابيب ويتم تسهيل تطبيقه في الدول التي تتمتع فيها اسرائيل بنفوذ واسع مثل مصر اليوم.

  6. يقول Faroug:

    ندور حول العلة ولا نجرؤ على تسميتها وهي المبالغة والمتاجرة بالدين وتحميله اكثر من استطاعته وكأننا لا نثق بما نحن عليه, كل يحاول ان يثبت زورا بانه صاحب دين اكثر من غيره.

  7. يقول حسن:

    نحن أمام مجموعة كبيرة من المفاهيم والوقائع والرؤى المختلطة ، وتحتاج إلى صفحات إلى تحريرها، مثلا الصوفية تختلف عن الدروشة، فالأولى تزكية النفس والزهد في الدنيا وما يملكه الناسوالتحرر من عبودية الخلق، وقبل ذلك القيام بالواجب والجهاد في سبيل الدين والوطن وحمايتهما. أما الدروشة فهي الموالد والطبل والزمر وأكل الفتة وعدم النهوض إلى الصلاة، واستباحة المتع اللذيذة. المحنة التي تعيشها الأمة حاليا هي حكم العسكر والاستبداد، وهذا الحكم متخلف لقصور أصحابه الفكري والعلمي والتطبيقي والخلقي، ويكفي أنه يفرط في الأرض والعرض ويصادق الأعداء ويقوم بخدمتهم ويحفظ حدود ما اغتصبوه من أراض وأوطان، وفي الوقت نفسه يقهر مواطنيه ويقتلهم ويزج بهم في عالم الصمت والنسيان، ويضعهم على حافة الموت الذي يتمنون الوصول إليه ولا يستطيعون. بلاد العرب تحولت إلى فناء خلفي يمارس فيه الأعداء وصبيانهم من العسكر والمستبدين كل صنوف الرذائل الإنسانية وفي مقدمتها الظلم والبغي والتخلف والللصوصية والنهب وبعثرة الحقيقة.

إشترك في قائمتنا البريدية