ربما كان بالإمكان إعادة اللحمة بين دول مجلس التعاون الخليجي التي بدأت في التداعي قبل عام واحد عندما قررت السعودية والإمارات فرض حصار جائر على الشعب القطري، لو لم تعلن الرياض وأبوظبي مؤخرا عن إنشاء «المجلس التنسيقي السعوديالإماراتي». هذا الإعلان لم يجعل رأب الصدع مع قطر شبه مستحيل في الأوضاع الحالية فحسب بل اعتبر ضربة قاضية لمجلس التعاون الخليجي الذي تأسس في 1981.
وبرغم ضعف أداء المجلس في جوانب عديدة، عسكرية واقتصادية وسياسية، إلا أن بقاءه كان يشار إليه بالبنان بأنه المشروع العربي الوحيد (بموازاة الجامعة العربية) الذي بقي على قيد الحياة طوال هذه الفترة. هذا مع الاعتراف بأن مسيرة هذا المجلس كانت مشوبة بالخلافات ومقاطعة القمم وتدخل دوله الأعضاء في شؤون بعضها البعض، وبعض المناوشات العسكرية على الحدود، والاختلاف حول بعض المشاريع الاقتصادية بسبب الخلافات الحدودية.
وفي أحسن حالات المجلس كان هناك طموح لتوسيع عضويته، تارة بدعوة دول أخرى للانضمام مثل الأردن والمغرب، وأخرى بالتواصل مع اليمن لترغيبه بالعضوية. بل إن بعض الأفكار الطموحة كانت ترى إمكان انضمام العراق، في عهد صدام حسين، للمجلس. وبين الجمود والطموح بقي المجلس قائما بشكله على الأقل، ولم يجرؤ أي من دوله الأعضاء على الانسحاب منه. وطوال تلك الفترة كانت لدى دول المجلس قناعة بوجود خطر أمني إيراني، وإن كان في أغلبه وهميا، كما أثبتت التطورات بين الحين والآخر. ومنذ تأسيس المجلس كان واضحا أن المملكة العربية السعودية حريصة على بقائه لأنه كان يعبر عن نفوذها السياسي الإقليمي في منطقة من أكثر المناطق في العالم حساسية وأهمية بسبب وجود النفط وممراته المائية والبرية. وكان تهديد بعض دول المجلس بالانسحاب كافيا للهرولة لحل الأزمات البينية أو تجميدها على الأقل. ولم يستطع القادة أنفسهم أن يتصوروا تصدع هذا الكيان الإقليمي.
لكن الأمور تغيرت جذريا في السنوات السبع الأخيرة. فقد كان هناك تباين واضح في المواقف إزاء ثورات الربيع العربي، إذ وقفت دولة قطر مع بعضها (في تونس ومصر وسوريا) بينما هرعت السعودية والإمارات لانتهاج سياسات ليست معادية للثورات فحسب، بل لإفشالها تماما. ثم جاء إعلان الحرب على اليمن قبل ثلاث سنوات ليزيد الأمور تعقيدا ويوصلها إلى حافة المفاصلة. فقد تباينت مواقف دول المجلس إزاء تلك الحرب، وتوسعت الفجوة في ما بينها، ووجهت اتهامات لبعض دول المجلس بدعم هذه الجهة أو تلك من الفرقاء اليمنيين. وأحدثت الحرب حالة استقطاب غير مسبوقة في مواقف دول المجلس. فالسعودية التي قادت العدوان، كانت تتوقع مشاركة فاعلة من بقية الدول، ولكنها فوجئت بغير ذلك. فقد رفضت سلطنة عمان الحرب جملة وتفصيلا، وأبقت حدودها مع اليمن مفتوحة لعبور حملات الإغاثة وسفر المسؤولين، واكتفت الكويت وقطر بعدم المشاركة في الحرب. بينما تحمست الإمارات ليس للمشاركة فحسب بل لتصدرها وتوسيع نطاقها والتدخل البري بالإضافة للحرب الجوية.
أما حكومة البحرين فلم تكن شريكة في القرار، بل كان عليها أن تنفذ ما تطلبه الرياض وأبوظبي لأنها أصبحت مدينة لهما ببقائها في الحكم بعد تدخلهما العسكري المباشر في آذار/مارس 2011 للمشاركة في قمع الثورة التي انطلقت ضمن ثورات الربيع العربي.
أما التصدع الحقيقي فقد حدث في مثل هذه الأيام قبل عام واحد عندما قررت السعودية والإمارات استهداف دولة قطر بهدف الهيمنة عليها ومنعها من انتهاج سياسة خارجية مختلفة عنهما. فقد اتهمت بدعم ثورات الربيع العربي، وأن قناة «الجزيرة» ساهمت في تصعيد الحراك ضد أنظمة حليفة للسعودية وأن سياساتها الإعلامية أصبحت مزعجة جدا في مرحلة حساسة تنطوي على مخاطر للنهج السعودي في المنطقة. وكان واضحا أن قمع ثورات الربيع العربي وإجهاض بعضها وحرف مسار بعضها الآخر لم يكن محصورا بالجهود السعودية والإماراتية، بل أصبح هناك ما سمي «تحالف قوى الثورة المضادة» الذي ضم بالإضافة لهذين البلدين كلا من «إسرائيل» ومصر والبحرين. وشعر البلدان بزعامة محمد بن سلمان آل سعود ومحمد بن زايد آل نهيان، بقوة سياسية مفاجئة قوامها الثروة النفطية الهائلة التي تكدست لدى بلديهما، والدعم الإسرائيلي الأمني والسياسي، وغياب الدول العربية الكبرى ذات الشأن عن المسرح السياسي. فقد عمل البلدان لتوجيه أكبر ضربة لمصر عبر الانقلاب العسكري الذي دعمتاه. وبغيابها عن قيادة الساحة العربية ضمنتا ظروفا مؤاتية لتنفيذ سياساتهما التوسعية. وساهمتا في نخر سوريا من الداخل بإشغالها بحرب داخلية مدمرة. وعملتا على إشغال العراق بتوترات طائفية وإرهابية حصدت أرواح مئات الآلاف، حتى ضعف عن أداء أي دور فاعل على الصعيد العربي. وحدث الأمر نفسه مع ليبيا التي تم تمزيقها بعد سقوط نظام معمر القذافي، وشاركت الإمارات عمليا لدعم خليفة حفتر في مقابل المجموعات الأخرى. وعمل البلدان لاستمالة السودان للمشاركة في حرب اليمن التي لا تخصه من قريب أو بعيد، بل شجعتاه على قطع العلاقات مع إيران، التي يفترض أن يكون حليفا استراتيجيا لها ضمن مشروع الإسلام السياسي الذي كان السودان من الدول المتهمة بترويجه. وقد ساهم وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية في تسهيل مهمتهما. فقد شعرتا بغضب إزاء إدارة اوباما التي تعاطت مع الملفات الخليجية من موقف مختلف.
فقد اعتبر اوباما في لقائه مع الزعماء الخليجيين أن أزمة دولهم داخلية وليست من إيران، وأن عليهم أن يستمعوا لمطالب شعوبهم. كما أن اوباما بذل جهدا كبيرا للتوصل للاتفاق النووي مع إيران.
أمام هذه الحقائق، سعت السعودية والإمارات لإحداث تغييرات كبيرة في استراتيجية العمل العربي الذي تصدرتاه. فقد تمكنتا بدعم إسرائيلي مكثف من إقناع الإدارة الأمريكية بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، برغم اعتراض الدول الأخرى ذات الشأن، المانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين. كما أصبح واضحا أن النظامين يعتقدان أن استقرار أوضاع المنطقة سيؤدي لاندلاع ثورات ربيع ثان، ولذلك تعاونتا بشكل واضح لشن الحرب على اليمن، بدعم أنجلو-أمريكي وصمت دولي. وتلعب الثروة النفطية دورا في توجيه الموقف السياسي الدولي والضغط على الدول الغربية وتهديد من يعارض تلك السياسة بقطع التعاون الاقتصادي والأمني معه، كما حدث مع المانيا التي جمدت عقودا اقتصادية عديدة بين السعودية وشركات المانية مرموقة. وعمل البلدان على محورين متوازيين آخرين: أولهما التطبيع مع «إسرائيل» التي أصبح زعماؤها يتحدثون علنا عنه ويشجعون الآخرين على الاحتذاء به، وثانيهما استهداف الأطراف التي تعارض سياساتهما. وجاء استهداف دولة قطر العام الماضي على خلفية المواقف القطرية خلال ثورات الربيع العربي، وقناة «الجزيرة» التي ساهمت في توعية الرأي العام (برغم المؤاخذات على بعض توجهاتها)، وعلاقاتها مع أطراف إسلامية خصوصا جماعة الإخوان المسلمين. ولم يكن الأمر محصورا بالحصار السياسي أو قطع العلاقات الدبلوماسية فحسب، بل إن حصارا كاملا فرض على هذا البلد الخليجي الصغير، ولولا موقعه الجغرافي الذي حال دون التمكن من فصله عن العالم بشكل كامل، وثروته المالية العملاقة لربما اتخذت الأمور منحى آخر. لكن الصدمة الكبرى لكل من الرياض وأبوظبي جاءت عندما رفضت الولايات المتحدة أي عمل عسكري ضد قطر شبيه بما فعلته مع اليمن. وبرغم تلويحهما بالعدوان إلا أن من غير المرجح حدوث ذلك لأسباب ثلاثة: أولها موقف كل تركيا وإيران الداعم لسيادة قطر وأمنها، ثانيها: خشية أمريكا وحلفائها من تورط البلدين في صراع طويل الأمد وغير مضمون النتائج كما حدث في اليمن، ثالثها: خشية الغرب من سعي البلدين لجره لحرب لا تخدم مصالحه، رابعها: تصدع جبهة حلفاء أمريكا في المنطقة بشكل أوسع، وما لذلك من انعكاسات سلبية على توازن القوى لغير صالح تحالف (4 +1 الذي يضم السعودية، الإمارات، مصر، البحرين و «إسرائيل»).
وفي هذا الصدد يمكن تسجيل ملاحظات عديدة: أولها أن الإمارات أكثر حماسا لهذه السياسات العدوانية، ويبدو أن محمد بن زايد هو الملهم الفكري والسياسي لمحمد بن سلمان، ثانيها: أن دول هذا التحالف تمارس سياسات متشابهة جدا مع معارضيها: هذه الدول تعتقل نشطاء حقوق الإنسان وتصدر أحكاما بسجنهم بسبب تصريحات أو تغريدات صادرة عنهم (السعودية حكمت على الدكتور محمد الحضيف بالسجن خمسة أعوام بقضايا تتعلق بالتعبير عن الرأي، الإمارات سجنت أحمد منصور عشر سنوات بتهمة تتعلق بحرية التعبير أيضا، والبحرين سجنت المناضل نبيل رجب خمسة أعوام لتغريداته ضد حرب اليمن، ومصر سجنت العشرات بهذه التهم، وقتلت «إسرائيل» أكثر من 120 فلسطينيا بسبب مشاركتهم في احتجاجات سلمية)، ثالثها: أن البلدين يستهدفان قطر لأسباب من بينها امتلاك قناة الجزيرة التي يطالبان بغلقها ضمن سياسة مصادرة حرية التعبير.
كاتب بحريني
د. سعيد الشهابي