ليل السجينات السوريات

حجم الخط
4

احتفلت الضاحية والاعلام اللبناني معها بخروج المخطوفين اللبنانيين التسعة الى الحرية، بعد معاناة طويلة مع احتجاز لا مبرر له في بلدة اعزاز السورية.
ارتفعت اعلام حزب الله وحركة امل الى جانب علم النظام السوري في بئر العبد حيث جرى الاحتفال. لم يتساءل احد عن سبب غياب العلم اللبناني عن المكان، فلقد اعتدنا هذا الغياب من زمان، حين قبلنا ان تتحول بلادنا الى ساحة.
اللافت كان غياب اية معلومات عن الصفقة السياسية التي ادت الى اطلاق سراح المخطوفين. لا يستطيع الاعلام ان يغطي الجانب المالي من الصفقة، فهذا سر معلوم كشفته تصريحات وزير الخارجية القطري، لكن لا ادري سبب التقصير في كشف صفقة التبادل، حيث جرى الحديث عن اطلاق 128 سجينة سورية مقابل اللبنانيين التسعة.
المعلومات التي تسربت تقول ولا تقول، هل اطلق سراح السجينات السوريات واخرجن من بلادهن الى الحدود التركية ام ماذا؟ لا احد يدري في غياب شبه كامل للاعلام او لأية مظاهر احتفالية، على عكس ما جرى في بيروت.
يخرجن من مجهول السجن الى مجهول المنفى، يحيط بهن الصمت والأسى. لم يلتفت احد الى مأساتهن، ولم نعرف اسماءهن، نساء بلا وجوه ولا اسماء، وضحايا لا يعترف لهن بأنهن ضحايا. وهن في ذلك جزء من مأساة شعب صار عشرات الألوف من ابنائه ضحايا الاعتقال التعسفي على ايدي اجهزة تعذيب تفوقت على نفسها في اذلال الناس.
128 امرأة بلا تهمة وضعن في سجون النظام، من ضمن تصوره الوحشي بأن حلّ الأزمة السورية يكون بتشريد الناس وتدمير بيوتهم وقتلهم واعتقالهم.
لا نستطيع لوم النظام الاستبدادي في سورية على هذا الصمت الذي احاط بالسجينات، كما لا نستطيع لوم حليفه الايراني او حزب الله على هذا. فحزب الله نجح في اطلاق مخطوفيه، والنظام السوري ادى بذلك خدمة لظهيره العسكري اللبناني بثمن بخس. فالسجون السورية لا تزال مليئة، كما ان النظام يستطيع اعتقال من يشاء، وهناك ملايين النساء في سورية يستطيع ان يغرف منهن بدائل ساعة يشاء.
اللوم يجب ان يتوجه الى المعارضة السورية اولا. لم يعد السكوت ممكنا على هذا الاستخفاف بالسياسة. خطف اللبنانيين واعتقالهم في اعزاز كان مسخرة. وتسليم القرار العسكري لمهربين قاموا بعملية الاختطاف كان فضيحة. والمقايضات التي جرت خلف الكواليس كانت بهدلة. يجب ان تقال الأمور بشكل واضح، فعندما كتب بعض المثقفين المؤيدين لانتفاضة الشعب السوري ضد عملية الخطف المشينة تلك، جرى تجاهلهم بالكامل من قبل المجلس الوطني، واستمر التجاهل في زمن الائتلاف. واليوم لا احد في هذه المعارضة الكريمة يتصدى لكشف الصفقة، ويتحدث عن السجينات، ويدين هذا التلاعب بالمصير السوري؟
السجينات السوريات اللواتي عانين القهر والمذلة والتعذيب هن وجه سورية الحقيقي اليوم. سورية محجوبة مثلهن، ومهانة معهن، ومنفية الى جانبهن.
منذ اللحظة الاولى للانتفاضة استباح النظام كل المحرمات، وشرّع ابواب سورية للتدخل الخارجي. كان يتهم خصومه بأنهم دعاة هذا التداخل، بينما كان يمارسه سرا وعلنا. لذا لم يتردد في القبول بصفقة الكيماوي، ولم يجد اي حرج في صفقات التبادل التي ابرمها حول الايرانيين المختطفين في الماضي واللبنانيين الذين اطلق سراحهم اليوم. نظام لا يلوي على شيء سوى على بقائه في ابدية السلطة والدم، وكل شيء مباح في سبيل هذه الغاية.
لكن المعارضة السورية، التي راهن بعضها في الماضي على التدخل الخارجي بسذاجة، لم تتنبه الى ان معركتها الاساسية التي لخصتها كلمتي الحرية والكرامة، لا يمكن ان تخاض من دون التأكيد على السيادة الوطنية.
ولعل آخر نماذج انهيار السيادة عند الأطراف السورية كلها، اي النظام ومعارضاته، هو هذه الصفقة التي نسجتها قوى خارجية. كان لا بد من تركيا وقطر وسفارة فلسطين، كي تتم الصفقة، وكان لا بد من نزع كل مظاهر السيادة الوطنية عن المسلحين الذين قاموا بعملية الاختطاف المشينة، كي تنتهي الحكاية بهذا الشكل.
ليس صحيحا ان الثورات لا تُهزم، بل الصحيح انها معرضة للهزيمة وعلى يد ابنائها انفسهم. كيف نفسّر هذا الارتخاء في مفاصل الجيش الحر، امام صعود ‘داعش’ و’النصرة’ وتفريخ جيوش من هنا وهناك، الا بوصفه انتحارا للثورة ونحرا لكل تضحيات السوريات والسوريين.
قد نقول انها قوى خارجية، وان النظام متواطىء وشريك في هذا الصعود، وهذا صحيح. لكن الصحيح ايضا هو ان القيادة السياسية للمعارضة مسؤولة عن هذا التراخي، لأنها عجزت عن القيادة، واستسلمت لقوى ‘الدعم’ العربية، التي كانت تعمل وفق اجندات لا علاقة لها بمشروع الثورة، لأن هذه القوى اسيرة اصوليات نبتت في ظل ايديولياجياتها المهيمنة، وهي عاجزة عن التعامل مع واقع شديد التعقيد كالواقع السوري.
لذا ينكفيء الدعم الخليجي، وينذر بتغيير مساراته، او مسارات بعض اطرافه، ويجد السوريات والسوريون انفسهم وسط الركام، ويكتشفون اليوم انهم لا يزالون وحدهم، كما في اليوم الأول لانطلاق ثورتهم.
سجينات بلا وجوه ولا اسماء، سجينات يختزنّ الأسى في عيونهن، سجينات يرسمن الألم السوري بغربتهن.
سجينات يخرجن من السجن الى السجن، كي يكن شهيدات على هذا الزمن الذي يقوم بتحويل ليل الاستبداد السوري الى ليل من الدم والغربة.
لهن تليق التحية، وبهن يبدأ الكلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الرحمن:

    اعتمدت المعارضة السورية على النظام السعودي بينما اعتمدالمجرم بشار على المجرمة ايران فكانت هذه هي النتيجة

  2. يقول أحم:

    ما أعذب كلماتك, وما أمره موضوع المقال

  3. يقول سامح // الامارات:

    شكرا للأخ الكاتب على مقاله القيم .
    بأدين وبشدة أي عملية إختطاف لمدنيين أبرياء …بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم ؟؟؟
    وبنفس الوقت : أستهجن كيف النظام السوري الذي يدعي الوطنية والمقاومة :
    يقبل على نفسه : معاملة ( السجينات السوريات ) بهذا الشكل …
    البعيد كل البعد عن الإخلاق والشرف والشهامة العربية الأصيلة …؟؟؟!!!
    شكرا .

  4. يقول علي أحمد سعيد:

    كل الشكر والتقدير على الكلام النابع من عقل نافذ وضمير يقظ.

إشترك في قائمتنا البريدية