أين يتموقع التيار العقلاني التنويري اليوم في المشهد الفكري العربي؟ بعد تصفيات طالت الأدمغة المخاطبة للعقل خلال ثلاثة عقود من الزمن، هل يمكننا الحديث عن حركة تنويرية في العالم العربي، أوعلى الأقل عمّا تبقّى من تلك الحركة النهضوية التي بزغت في وقت ما وغربت بسرعة؟
إن كانت نوال السعداوي على سبيل المثال لا تناسبنا كمجتمع ولا نخبة تنويرية، فلماذا ناسبت جامعات مثل هارفرد، ويال، والسوربون وجامعات عالمية أخرى؟
ولماذا شغل حامد نصر أبوزيد «كرسي كليفرينخا» في جامعة ليدن، و«كرسي ابن رشد» في جامعة أوترخت في هولندا، في الوقت الذي وجّه له القضاء المصري ضربة قاضية تطعن فكره وعقيدته، مع أن العقيدة عند أي شخص بالغ علاقة خاصة بين العبد وربِّه؟
لماذا حين هُدِّد سيد القمني بالقتل بسبب آرائه، تكاثرت عليه الخناجر، وهوت عليه بشكل مباشر أو غير مباشر من زملاء مهنة، ومخالفي رأي، حتى أُسكِت لعدة سنوات وأُرغِم على الانسحاب من المشهد الثقافي حتى خفّت وطأة التكفيريين؟
لماذا لم يحدث أي تدخل لحماية فرج فودة من القتل، مع أن تكفيره حدث بشكل علني من طرف دعاة وصفوا بالاعتدال والوسطية؟ بل حتى الأزهر تبنى فكرة التكفير تلك وكانت القلة التي دافعت عن فودة غير فاعلة في الحقيقة بحكم أنها خارج صرح السلطة والهرم القضائي والمؤسسة الدينية المتفقة على إهدار دمه؟
نجيب محفوظ بقامته العالمية أيضا لم تشفع له سمعته الأدبية ليكون له جناح آمن يأويه ولا يعرّضه لإهانة طعنة جاءته في آخر العمر من أحد أبناء بلده. أين نصنف أنفسنا في هذا السلم المكسور الذي لا يبلغ لا قمة ولا ربوة؟ هل يمكن أن نجد اليوم المبرر الذي سلّم رقاب التنويريين للطغمة الظلامية التي بسطت سيطرتها على المجتمعات العربية وأدخلتها في نفق سحيق لا مخرج له ولا بريق نور في الأفق.
بعد ست وعشرين سنة من اغتيال فرج فودة، ما الذي تغيّر؟ وهل يمكن اعتبار هذه السنوات كافية لمراجعة أنفسنا وحساباتنا؟ أم أنها ليست أكثر من مرحلة من مراحل الهتك بالعقول العربية في انتظار إفراغ خريطتنا تماما من مفكرينا؟ ما الذي نسجله اليوم غير اغتيالات متفرقة هنا وهناك، تتم وسرعان ما نجد لها مبررات، بدون التوقف عند الجريمة في حدِّ ذاتها، وفي طبيعة أسبابها خارج الإطار الذي تُزَجُّ فيه لتبدو مقبولة اجتماعيا. كتلفيق تهمة الكفر أو المعارضة السياسية للضحية، فصاحب الفكر تحديدا يقف في النقطة الحرجة التي يتقاطع فيها الجميع، بدون انتماء واضح لطرف معين.
بعض التبريرات تنتهي إلى تشريع القتل بسبب جملة عابرة، وهذا كاف لنشر الرعب في الفئات جميعها، وتكميم أفواهها إلى أجل غير مسمى. هل في الأفق ما يشير إلى توقف آلة الموت من حصد الأدمغة العربية؟ مسبقا علينا أن نضع في الحسبان عدد الأدمغة الناجية من الموت، وتلك التي نفذت بريشها من أقفاص الصمت والقمع، حين اختارت الهجرة إلى الغرب. حسب الأرقام تتربع البلدان الإسلامية المرتبة الأولى في تصدير ثروتها الفكرية المنتجة للغرب، ما يفوق ثروة البترول والغاز الطبيعي وثروات أخرى.
لكن هذه الصادرات «الخاصة» يقدمها العالم الإسلامي بدون مقابل للغرب، بعد أن يهدر مبالغ طائلة حتى عمر تخرجها من الجامعات، إذ تصطدم هذه الأدمغة بعراقيل توظيفها، أو تعطيلها، أو إتلافها باكرا، إن حاولت التعبير عن امتعاضها بطريقة ما.
خمسون في المئة من مجموع أدمغتنا هو متوسط الأدمغة المهاجرة نحو الغرب لأسباب تختلف تماما عن هجرة الأدمغة الغربية من بعض البلدان إلى بلدان الجوار، مثلما يحدث منذ سنوات بالنسبة لأدمغة يونانية أو فرنسية إلى ألمانيا وبريطانيا على سبيل المثال، لا بسبب القمع والتهميش، بل من أجل تحقيق ثروة والهروب من الضرائب. المشتغلون في حقل الفلسفة والفكر يبحثون عن جامعات تحترم فكرهم، يفتحون نوافذ وأبواب على العالم المضيء الذي حرموا منه، لكن إن لم يتحقق لهم ذلك، فما هي البدائل الممكنة أمامهم؟
في تسعينيات القرن الماضي بالغ المتطرفون دينيا في تصفية أسماء بالغة الأهمية، بدءا ببلد عظيم مثل الجزائر، التي لم تكد تقطف ثمار استقلالها حتى هبت عليها رياح التطرف التي عصفت بالمجتمع كله وبعثرت نخبه، وألقت بعدد كبير منهم إلى الضفة الأخرى، إلى الغالية تونس التي ضربها الوباء نفسه مؤخرا، وها هي الأرقام تصدمنا لعدد أدمغتها التي شدت الرحال نحو ضفاف الشمال، يجب عدم ذكر بقية البلدان، لأنها تعيش الظاهرة بشكل إمّا أقل أوأكثر..
العراق، وسوريا وفلسطين، بلدان تطوف على خشبة الموت فوق بِرَكٍ آسنة، ومهما غابت الإحصائيات الدقيقة بشأن خساراتها البشرية بما فيها الأدمغة، فإنها بلدان تنزف بدون توقف. إنها الكارثة الحقيقية التي يعجز اللسان عن وصفها، منذ الحروب التي أقحمت فيها إلى الحروب التي تندلع في عقر أراضيها لأسباب مفهومة وأخرى غير مفهومة. بعض الأنظمة تكتفي بإهانة العقل بتسليم إدارة أمور رعاياها لمن هم بلا عقل، ليعيش الجميع في دوّامة التسيير السيئ، والأخطاء القاتلة، وانتشار الأمراض الاجتماعية والفقر والجريمة والتهافت على لقمة العيش.
بعد ست وعشرين سنة من اغتيال فودة، لا اعتذار صدر من المؤسسات الدينية المعروفة ، ولا تكفير للتكفيريين، ولا دعوة لإيقاف فتاوي الموت، ولا خطاب معتدل في الحقيقة… إذ من حين لآخر نسمع بتكفير كاتب أو شاعر أو مفكر، والتكفير في المجتمعات الإسلامية دعوة علنية لإهدار دم المقصود، يحدث هذا بدون ملاحقة هؤلاء المحرضين على القتل، وكأن مؤسسات القانون موافقة على ذلك.
والغريب أيضا أن التغيرات التي نشعر بها وهي تنبثق من بعض المجتمعات المغلقة، على أنّها إصلاحات جذرية وخطة جادة لإعادة الاعتدال للمؤسسة الدينية والتفكير الشعبي، يقابله الكثير من الخوف والتّخوُّف من التقدم خطوة واحدة إلى الأمام، وسط الألغام التي زرعت منذ عصور في العقل المدبِّر الاجتماعي.
لا ثقة في تلك الأطراف التي تعتمد في تصفيتها للأدمغة على العناصر الأضعف في المجتمع، على مراهقين لم يكتمل نضجهم، على الفاشلين الذين دمرتهم عقدة النقص ومنحت لهم فرصا للانتقام، على الضالين في الدنيا بحثا عن طريق يوصلهم للجنة بفعل واحد ليس فيه من العناء ما يتطلبه الاجتهاد اليومي على مدى سنوات لتحقيقه، وكل هؤلاء ذخيرتهم الأساسية الكثير من الفشل، والعجز لتحقيق الذات.
لا أبشع من جريمة قتل يذهب ضحيتها شخص مسالم أعزل، لكن الأبشع من ذلك أن تكون شاهدا على الجريمة وتسكت، في مناظرة فودة الأخيرة أمام الشيخ محمد الغزالي، تابع جمهور مهول تلك المناظرة الفكرية، التي لم يتلفظ فيها فودة بعبارة واحدة يعترف فيها بالكفر، ومع هذا سكت ذلك الجمهور حتى حين أطل القاتل عبر شاشات التلفزيون ليعلن أنه غير نادم على فعلته…
أليس في هذا الاعتراف المخيف إصرار على الاستهتار بالعقل، وضرب أصحابه عرض الحائط؟ أليس تقزيما لمؤسسات القانون، وتجاوزا لأنظمة تعتقد أنها تحمي نفسها بهذه الطريقة، فيما هي بتكريسها للجريمة واغتيال العقل تفتح الباب لكل أنواع المرتزقة واللصوص والقتلة ليعبثوا بشعوبها وبخيراتها في عقر بيتها؟
شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
سيدة هذا الفضاء الجميل الذي تغرد فيه كل العصافير .. كل عام وانتِ بخير وصحة وسلامة ولصحيفة القدس والعاملين بها وجميع قراء زاويتكِ الاسبوعية الجميلة والمفيدة التي تخاطب جميع الشرائح والمذاهب والأديان والأهم تخاطب كل العقول ،
@_@.!!
الملّك ودأفنشي..
وهذا الأخير كان يملك من كل موهبة نصيباً؛ فهو فنان (رسم الموناليزا)، ومخترع (ابتكر الهليكوبتر)، ونحات (نقش كاتدرائية فلورنسا)، ومهندس (خطط قنوات فلورنسا وميلانو)، وطبيب (ترك رسومات رائعة في التشريح وحركة المفاصل).. وفي آخر حياته استدعاه ملك فرنسا فرانسيس الأول كي يحظى لديه بالرعاية والتكريم، وحين استقبله لأول مرة جلس معه لساعات ينصت لأفكاره النيرة وفرضياته الغريبة حتى دخل عليه الحاجب، وقال سيدي الملك نبلاء فرنسا في الخارج يريدون مقابلتك؛ فلم ينطق الملك – كي لا يقطع حديث ليوناردو – ولكنه أشار إليه أن «اخرج» ودعهم ينتظرون..
وبعد فترة عاد الحاجب وقال جلالة الملك مازال النبلاء ينتظرون، فأشار إليه بنفس الحركة فخرج الحاجب على مضض، ثم عاد للمرة الثالثة وقال متلعثماً: سيدي الملك بدأ النبلاء يتذمرون وعاد بعضهم إلى بيته.. وهنا قال الملك فرانسيس بحدة: اسمع يا هذا، أنا من يصنع النبلاء في فرنسا أما ليوناردو فالله وحده قادر على صنعه،