«جرائم الصغار» من يزر وزرها من الكبار في الدولة والأسرة وأصحاب الكتاب؟

حجم الخط
0

الرباط ـ «القدس العربي»: كشفت وسائل التواصل الاجتماعي، في المغرب عن ظاهرة أًصبحت حديث الألسن، فلم تعد تستحوذ فقط جرائم الكبار على الأحاديث بما تحمله من إثارة وخوف، بل صارت «جرائم الصغار» مادة دسمة لتبادل الأخبار والمخاوف والحسرات. «جرائم» هؤلاء الصغار يتحمل وزرها الكبير الدولة والمجتمع والأسرة والمدرسة قبل أن تصير حكما قد ينهي الفاعل لكنه لا ينهي الأفعال. جرائم تشكل صدمة في الحاضر لكنها تجعل الآتي مخيفا، لأنها تصدر من بذور لثمار يعدها المجتمع للمستقبل، فأي ثمار هذه تقترف عنفا لغاية ليست أقل قبحا وهي الغش، الذي كاد أن يصير «حقا» يطالب به مقترفوه وإن لم ينالوا نصيبهم منه احتجوا عليه بالعنف، بل ومحاولات القتل والقتل؟
الأطفال وهم الفئة الأكثر هشاشة ويقعون تحت مسؤولية الأسرة والدولة والمجتمع، لا تكاد تتوقف الأخبار عما يصيبهم، فمن حادث غرق جماعي إلى محرقة جماعية بحافلة إلى حوادث هنا وهناك عن اختطافات واغتصاب وتحرش ونزيف هدر مدرسي لا يتوقف، إلى أن صار الأطفال «يقتلون» الأطفال، ماذا يعتمل داخل المجتمع المغربي حتى صارت ملائكته تحمل السكاكين وتجوب المدارس كما الشوارع والأسواق؟
هكذا استأثرت الأسئلة عن ظاهرة العنف في الوسط التربوي بشقيه الأسري والمدرسي في السنة الأخيرة باهتمام واسع للباحثين والأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين دون أن تتراجع الظاهرة ودون أن يخضع هذا الجسد التربوي لعلاج جدي وفعال. وفي الآونة الأخيرة، وبشكل خاص خلال هذا الأسبوع، توالت أحداث عنف شديدة وصلت حد إزهاق الحياة، وهو ما حدث خلال فترة الامتحانات حينما هم طفل لم يتجاوز الخمسة عشر ربيعا إلى مهاجمة زميل له بسكين وطعنه حتى لفظ الضحية أنفاسه. الهالك والمهلوك كلاهما ضحايا لما هو أكبر من السلوك المباشر ومن اليد القاصر.
الزمن زمن امتحانات والمكان ساحة المدرسة وأداة العنف «الجريمة» سلاح أبيض تأبطه التلميذ لشر داخل قاعة الدرس. فلحظات بعد مغادرة قاعة الامتحانات أقدم (ز.ن) داخل ساحة إعدادية بقلعة السراغنة التابعة لمراكش، على مهاجمة زميل له بسكين وضعه على رقبته والسبب أن الأخير لم «يساعده» في الغش في الامتحان في مادة اللغة الفرنسية فما كان إلا أن طعنه، فلفظ الضحية أنفاسه في المستشفى بعدما فشل الأطباء في إنقاذ حياته، فيما خضع تلميذ آخر أصيب بجروح طفيفة على مستوى الظهر، من طرف الطفل الهائج نفسه، للعلاج وفق ما أفاد به بلاغ صادر عن المديرية العامة للأمن، الذي كشف أن المشتبه به تم الاحتفاظ به تحت تدابير المراقبة وهو قيد البحث الذي تشرف عليه النيابة العامة المختصة.
يحدث هذا في مدرسة يطلق عليها اسم «البهجة» فأسقط الحادث حتى كذب المعاني في الأسماء التي تحملها المدارس العمومية بعد أن صارت ساحاتها تحفل بالمأساة.
هذا الحادث وإن كان هو المهول في سلسلة الأحداث المتوالية في هذا المضمار، فهو لم يكن معزولا خلال فترة الامتحانات هذه، بل في الوقت نفسه تعرض أستاذ داخل مؤسسة تعليمية في مدينة سلا جارة العاصمة الرباط لطعنة على مستوى الرأس بواسطة السلاح الأبيض من طرف تلميذ ضبطه الأستاذ المذكور في حالة غش أثناء الامتحان مستهل هذا الأسبوع، وهو ما أُثار غضب الأساتذة ودفعهم للاحتجاج والمطالبة بتوفير الحماية اللازمة لهم من طرف الدولة معربين عن تخوفهم من أن تتفاقم الأحداث وتصير ظاهرة أكثر خطورة. دخلت المديرية التعليمية الإقليمية في المنطقة على خط النازلة لطمأنة الأستاذ وتدخلت المصالح الأمنية لاعتقال الفاعل، وصمتت الوزارة كأن الحادث صار في عرف المعتاد، وحلل المحللون الذين لا تسمع آذان المسؤولين نواقيس إنذارهم بحلول الكارثة، ويبقى النزيف مستمرا ومادة لحديث الصحافة والإعلام. فمن يحد من هذا العنف المتنامي الذي لم تعد يده تؤذي بالشوارع والفضاءات العامة عموما، بل وصلت قاعات الدرس وحضن المدرسة الذي من المفترض أن يكون الحضن الحصين الأكبر؟ وكيف تغذي منظومة التربية في شقيها الأسري والمدرسي العنف أو كيف تحد منه؟
الطفل نتاج منظومة تربوية هذا ما يجمع عليه الأخصائيون، وإن كان بذرة «فاسدة» فالتحاليل يجب أن تشمل التربة التي نما وينمو فيها وبأي سماد غذيت وأي أداة حرثت. وهنا لا يختلف اثنان على الدور التي تقوم به الأسرة كفاعل تربوي أساسي، حينما يصير الطفل يرى في الغش حقا، فهذا يحيل على أي منظومة قيم تربى عليها، يحيل على أن مفهوم الحق والواجب صار معتلا ومختلا، مختلا لدرجة أن يصير طموح النجاح في الامتحان معبره الغش وتحقيقه يعمي البصر والبصيرة حتى تصبح أقسى حالات العنف «مشروعة» لنيله دون وجه حق. حادث المدرسة الصغير والمخيف يعري ما هو أكبر وهو أن تحقيق النجاح لم يعد مرتهنا بالجد والكد وسهر الليالي وتلك الحكايات التي صارت تحكيها الجدات عن زمن جميل كان أو لم يكن لكن ينام بها الأطفال ولا يصدقونها فهم يفتحون أعينهم على سلوك الآباء والأمهات البالغين الذين يلغوا دون عناء.
والأسرة في نهاية المطاف لا تسبح خارج القوانين والخطوط العامة في المجتمع التي يرسمها الكتاب المدرسي والجريدة والمسجد وكل قنوات تصريف الخطاب وبناء الفرد التي تمتلكها الدولة في الأساس. ويرى علي الشعباني وهو محلل ومختص في علم الاجتماع أن الدولة مسؤولة بشكل أولي عن مثل ما حدث في المؤسسة التعليمية في قلعة السراغنة لأنها هي «التي تسببت في التفاوت الطبقي والفوارق الاجتماعية وغياب المساواة في الحظوظ والتهميش والإقصاء» وتليها الأسرة التي أصبحت متجاوزة في أدوارها التربية، حسب تصريح الشعباني لـ»القدس العربي» الذي يؤكد أن «الأبناء تجاوزوا الأسر بسبب أن العائلة بفعل الانشغالات أصبحت لا تمضي وقتا طويلا مع الأبناء وهو ما يؤدي للانفلات» مضيفا أن «الأسرة لم تعد تلعب الدور الرقابي والتوجيهي الذي كانت تقوم به، في حين أن المؤسسة التعليمية التي تقع عليها هي أيضا المسؤولية في هذه الظاهرة، تم إفراغها من كل محتوى وفقدت وظيفتها التربوية التي كانت تقوم بها، حيث كانت تزود التلاميذ بمجموعة من القيم الوطنية والأخلاقية التي تمنحهم نوعا من الحصانة حتى لا يقعوا في هذا النوع من الانحرافات، حيث كانوا يركزون على التحصيل المعرفي أكثر من الانشغال بأمور العنف بين التلاميذ والأساتذة وهذا راجع لتدهور المنظومة التعليمية رغم الحديث الدائم عن الإصلاحات.
ومن زاوية التحليل النفسي، يقول جواد مبروكي لـ»القدس العربي» أن حادث المراهق يعود سببه الرئيسي للتربية على مستوى القيم «أن السبب في الحادث هو الغش والمراهق تربى على ان الغش مسألة عادية، أستاذه يغش وفي الإدارة يوجد الغش وفي كل مكان ومن لا يغش يعتبر بليدا» موضحا أن «دماغ المراهق غير ناضج ولا يمكن أن نحكم عليه بعقل الإنسان الناضج، وهو لا يعتبر مسؤولا مئة في المئة كإنسان راشد، نعرف أن دماغ المراهق له حس كبير للعدل والظلم لذلك في غالب الأحيان يكون في حالة هيجان وهي ترجع لعدم قدرته على ضبط انفعالاته وينفعل بشكل كبير على أمر بسيط وهو ما حدث». مضيفا أن الخطير والصادم في الواقعة الأخيرة أن قيم العدل والظلم صارت مقلوبة، فـ»صورة الغشاش أصبح كأنه بطل والمراهق يخلق بين الواقع والخيال، وهو يحتاج عناصر تكوينية لشخصيته ويستمدها من النجوم الرياضيين والفنانين ويحتاج هذه العناصر التكوينية لشخصيته ليثير الإعجاب نفسه».
وعن المسؤوليات تجاه هذا الوضع يقول مبروكي أن «الظلم ساري في كافة النواحي، فمنع السلطة لندوة مثلا هو ظلم ونشعر أنه يعنفنا نفسيا فالظلم دائما يواكبه شعور بالعنف تتعرض له كرامة المعني ونريد أن نرد بأي وسيلة بالكتابة أو بالشتم أو أشكال أخرى. وبالنسبة للمراهق يجب أن نرى هل حقوقه في المدرسة مضمونة؟». موضحا أن المدرسة المغربية تعاني من هيمنة الهيكل الإداري والاستخفاف بالتلميذ وغياب ثقافة التشجيع، مضيفا أن الأمر نفسه يوجد في المنزل حيث يهيمن النقد في الثقافة المغربية على التشجيع وهو عنف ضمني إضافة لتفشي العنف المباشر داخل كل أسرة سواء بين الأب والأم أو بين باقي أفراد العائلة أو مع الجيران. «الكل ثائر ضد السياسة العامة» يقول مبروكي أنه سبب ينضاف لحالة العنف العامة التي يحيا داخلها المراهق وتؤثر على تمثلاته المثالية للمجتمع في حين يلحظ عنفا كبيرا في كل مكان ومجال ولا يمكنه تحقيق الصور المثالية التي تملأ ذهنه حيث تبدو له حلول المشاكل بسيطة وليست بالتعقيد الذي نراه ويرى رأيه صحيحا مئة في المئة لكنه لا يتحقق أضف لذلك أنه «أصبحا نحيا أزمة قيم حقيقية وكل واحد يريد أن ينجح وينتصر وحده ولا يهمه الباقي بل وكان على حسابهم» يقول مبروكي مشددا على أن الحل ليس بسيطا لهذا الوضع المعقدة ويتطلب مشورة موسعة بين السياسيين والمثقفين والمعنيين المباشرين بحالات العنف داخل المؤسسات التعليمية.

«جرائم الصغار» من يزر وزرها من الكبار في الدولة والأسرة وأصحاب الكتاب؟

سعيدة الكامل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية