مهنٌ غريبة لكتّاب أمريكا

حجم الخط
4

إن شئت أن تعرف في أي مهن غريبة عن الكتابة عمل الكتّاب لن تحتاج إلى أكثر من أن تسأل غوغل عن ذلك. وها غوغل يجيب:
– وليم فوكنر، وهو أهم روائي في القرن العشرين، حسب مراكز تقييم عدة، كان يعمل مدير مكتب بريد.
– كين كاسي، كاتب «طيران فوق عش الكوكو» عمل حارسا في مستشفى للأمراض العقلية.
– جي. د. سالنجر صاحب أحد الكتب الأكثر شهرة في الولايات المتحدة والعالم، كان مدير الترفيه عن ركاب باخرة سياحية سويدية.
– هاربر لي كاتب رواية «لتقتل الطائر المحاكي» To Kill a Mocking Bird كان حاجز تذاكر في إحدى شركات الطيران.
– ف. سكوت فيتزجيرالد مؤلف «غاتسبي العظيم» عمل منمّقا لجمل إعلانية كانت تُكتب على جوانب الحافلات.
الأكثرغرابة في ذلك الافتراق بين طبيعة الكتابة ومهن كتّابها هو ما نقرأه عن السيرة الموجزة لستيفن ريد، الكندي – الأمريكي الذي توفي بداية الأسبوع الماضي. كان سارق بنوك في كلا البلدين اللذين عاش في منطقة حدودية تفصل بينهما. لم يقتصر ما قام به على عملية سرقة واحدة، بل شارك في مئات العمليات من ضمن عصابة «المنبّه»، حسب التسمية التي أطلقتها الـ FBI عليها. ولم تكن الكتابة مرحلة تالية قطعت سابقتها، فالكاتب عاد مرّة أخرى إلى السطو على البنوك، على الرغم من أن كتابه نصف السيرة – نصف الرواية «إطلاق سراح الأرنب الكبير» لقي انتشارا واسعا بين القراء حين صدوره.
كان منقسما بين طريقتي الحياة، حيث الالتزام بالعصابة ابتداء من عمر الثالثة والعشرين، والانخراط في حياة الكتابة والنشر وزواجه من ناشرته الشاعرة الكندية سوزان ماسغريف. وفي ما يتعلّق بهذا الازدواج بين العالمين اشتهر له قوله «إنني أعرف عن حياة المصارف أكثر مما يعرف موظّفوها. وفي المقابل، المقابل العكسي أعني، عمل مدرسا وألقى محاضرات. كل ذلك في حياة تغلب فيها أيام الإقامة في السجن على الإقامة خارجه. في المقالة التي نشرتها نيويورك تايمز منذ أيام، إثر وفاته، ذكرت أنه تنقّل بين عشرين سجنا في البلدين، الولايات المتحدة وكندا، هو الدمث، الطيب حسب زوجته التي قالت مخاطبة أحدهم: «قد يساعدك إن انثقبت عجلة سيارتك. ليس شخصا عنيفا…من الصعب تخيّله حاملا السلاح في مصرف».
٭ ٭ ٭
هذا الافتراق بين الكتابة ومهن كتابها يبدو خصيصة أمريكية. هناك لا يقتصرالاختلاف بين المهنة وضدّها على ابتعاد الأولى مسافة عن الثانية، كأن يكون الكاتب الروائي كاتبا في وزارة أو ديوان على ما هو حال معظم الكتاب العرب، الآن كما في أزمنة كثيرة سبقت. الفارق بين الكتاب الأمريكيين وكتاب العالم أن أولئك الأولين جاؤوا من تنوّع مهن الحياة المختلفة ولم يبارحها أكثرهم. هذا ما جعل الرواية الأمريكية الأكثر اتصالا بحياة مجتمعها وأكثر خروجا عن الأطر الثابتة للكتابة. كيف كان كين كاسي سيكتب «طيران فوق عشّ الكوكو» لو لم يعمل حارسا، بل ضابطا، لنوبات المرضى العقليين لو لم يكن هناك، مقيما بينهم؟ كيف كان من الممكن الاقتراب إلى هذا القدر من حياة السجون لولا ستيفن ريد؟ كيف كنا سنقرأ روايات على ذاك القدر من الاختلاف الذي اتسع معه مجال الرواية وعالمها؟ الرواية الأمريكية حرّرت الكتابة من الأنماط الراسخة أولا، ثم من الاصطفاف ضمن مدارس أدبية ثانيا، كما في فرنسا على سبيل المثال. الرواية الأمريكية هي كاتبها الفرد غير المنتمي لمن سبقه أو لمن زامنه. أن يقول نقاد أن الرواية مجالها الأفراد ومشكلاتهم المتأتية عن طمس فردياتهم أو إخفائها، هل يظل ذلك يعني الكثير إن نحَّينا جانبا ما نعرفه عن الرواية الأمريكية.
٭ ٭ ٭
عندنا، من ما تثقّفنا به، الكاتب هو الشخص قليل الحركة وقليل الحياة. في فيلم سينمائي مصري لم أعد أذكر عنوانه، أحضر رجل كاتبا إلى بيته لتتأثر بشخصيته الابنة التي لا تجد معنى لحياتها. ما زلت أذكر هذا الكاتب في الفيلم القديم. كان طويلا رخيم الصوت يرتدي بدلة وربطة عنق ونظارات لكي يصير شبيها بطه حسين. كل شخصه موجود في حكمته وتعقّله وصوته الرخيم. الأغرب أنني، بعد أن شاهدت الفيلم، بدوت متعلّقا بالصورة التي مثّلها ذلك الكاتب، مثلي مثل تلك الفتاة التي، حسب ما أذكر، شهدت في تلك الشخصيةعلى الاستقامة الاجتماعية والاحترام الضروريين ليكون المرء أديبا.
هكذا بدا طه حسين نفسه، لمن أتيح له أن يشاهد حوارات معه حفظها اليو تيوب. حتى أنني أدركت أن الأديب في ذاك الفيلم المذكور أعلاه مستوحى حقا من تلك المقابلة. على أي حال بقينا، نحن محبي الأدب، متمسّكين بالصورة التي تألّفت لنا عن نجيب محفوظ، الدقيق في مواعيده حتى أنك تستطيع أن تضبط ساعتك على مروره يوميا على كوبري قصر النيل. هكذا هو في حياته وفي شغله. «أقرأ ثلاث ساعات وأكتب ثلاث ساعات في اليوم»، قال مرة وموحيا بأن هذا الترتيب ظل مستمرا محافَظا عليه عشرات السنوات. كما أنه، هو محفوظ، لم يوافق يحيى حقّي حين دعاه إلى أن يكون أقل التزاما بوظيفته الحكومية، من أجل أن يكون أكثر تفرّغا لأدبه. لكن محفوظ استطاع أن يسرّب لنا شيئا من حياته الخاصة، وذلك بقوله إنه يسهر مع من سماهم الحرافيش، لكن ذلك مرةّ في الأسبوع لم يتغير موعدها طيلة السنوات الخمسين.

٭ روائي لبناني

مهنٌ غريبة لكتّاب أمريكا

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول زيد خلدون جميل:

    هنالك فرق اساسي بين الكتاب الامريكان و الكتاب العرب؛ و هي ان الكتاب الامريكان استطاعوا الاعتماد على الدخل المالي الذي كانوا يحصلوا عليه من مبيعات كتبهم بعد تحقيقهم للشهرة، بينما لم يستطع ايا من مشاهير الكتاب العرب ذلك.و حتى عندما نتكلم عن نزار قباني و نجيب محفوظ و توفيق الحكيم، فاننا ننسى بانهم كانوا يرتزقون من وظائفهم الحكومية. و من المثير للاهتمام ان كاتبا عربيا واحدا حاول دخول مخاطرة الاعتماد على مبيعات كتاباته و هو عباس محمود العقاد، و كانت النتيجة كارثة بالنسبة له حيث افلس و احاطت به المشاكل. و كاد ان ينهار في خضم كل هذا، الا ان بعض الطيبين توسطوا له لدى الرئيس جمال عبدالناصر و الذي امر بتقديم مساعدة مالية للعقاد. و كان عمل عبدالناصر مفاجئا نظرا لكون العقاد من “منتقدي” الرئيس.

  2. يقول kader:

    شكرا جزيلا على المقال و الفائدة. للتصحيح, هاربر لي سيّدة و ليست رجل و مانت صديقة لترومان كابوتي

  3. يقول الدكتورجمال البدري:

    مقال جميل ومثيرمعًا.وظلّ نجيب محفوظ يلتقي بالحرافيش حتى آخرأيامه.ولا أظنّ الحرافيش إلا ( تلاميذ نجيب ) وليسوا الغوغاء كما يدلّ اللفظ.
    ففي فندق ( شبرد أي الراعي ) على نهرالنيل كان يلتقي بهم في كلّ مساء أحد.وحضرت بعضًا من تلك الأمسيات.أما العلاقة بين الأدب والعمل
    فهي معضلة حقيقية في المشرق العربيّ.وأما في الولايات المتحدة فالكتابة الأدبية سلعة وبضاعة لمحترفين واجبة التجويد ؛ كي تجد سوقها المربحة وسط تنافس مفتوح الآفاق.

  4. يقول الدكتور وليد محمود خالص أستاذ جامعي عراقي مقيم في الأردن:

    يحفل تاريخ الأدب العربي بالشعراء من أصحاب المهن وخصوصا في القرن الرابع الهجري فالوأواء الدمشقي كان بائع بطيخ في سوق الفاكهة بدمشق والخبزأرزي كان يصنع هذه الأكلة ويعتاش من دخلها والسري الرفاء كان خياطا والوشاء كان يرفو الثياب وكان أبو الحسين الجزار قصابا وله البيتان اللاذعان وهما لاتعبني بصنعة القصاب فهي أزكى من عنبر الاداب كان فضلي على الكلاب فمذ صر ت أديبا رجوت فضل الكلاب وله أيضا لا تلمني يا سيدي شرف الدي ن اذا ما رأيتني قصابا كيف لا أشكر الجزارة ما عشت حفاظا وأرفض الادابا وبها صارت الكلاب ترجي ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا واللبيب من الاشارة يفهم على مقتضى المثل العربي القديم وهناك غير أولئك مع الشكر للكاتب المحترم وللقدس العربي الغراء الدكتور وليد محمود خالص

إشترك في قائمتنا البريدية