ليس هناك أهمّ من طرح الأسئلة الثّاقبة المتّصلة بالخيارات ومن المهمّ البحث عن الوسيلة الأنجع لتجاوز التعارض القائم ظاهريّا بين حاجة المواطن العربي إلى الحرية وحاجته في نفس الوقت إلى الأمن والنظام والسلم الأهلي. فالدولة تاريخيّا تميل إلى ممارسة الاستبداد والقهر والظلم والتعدّي على حقوق الناس بحجّة حماية المجتمع من الفوضى وخطر النزاعات. ومن السّهل جدّا مقايضة الشعب بين حرّيته وأمنه خاصة مع ازدياد العنف المتلازم مع ظاهرة الإرهاب الدولي.
ويبدو أنّ مستقبل العالم العربي لن يكون واعدا إلّا إذا اُستُخدِمت الموارد الطبيعية وفي مقدّمتها الثروات النفطية بشكل جيّد، وتمّ تدعيم الطّاقات الثقافية والفكرية لمجتمعات تحتوي ثروة بشرية مُعطّلة عمدا وقسرا ومقموعة من قبل النظم التسلّطية الحاكمة التي تمنع حرّية الرأي وترفض خلق مناخ للحوار والتّسامح ضمن أطر ديمقراطية مواطنية. وما لم يحدث مثل هذا التّغيير المطلوب فستستمرّ اللّحظات الحرجة لعالمنا العربي ولن نتجاوز المظاهر المسؤولة عن كافة خسائرنا ورداءة واقعنا في جميع مستوياته.
فالرؤية السياسية محدودة ومنعزلة عن تطلّعات الشعوب، ولا تُحسن التعامل مع الحراك النقدي الذي يُعرّي الظلم ويسلّط الضوء عليه. والدولة العربية اليوم تُؤدّي دورها من خلال أجهزتها البيروقراطية المعطوبة، وهي علامة على انهيار الدولة والمجتمع، ففي غياب مؤسسات دستورية ممثّلة تعمل على فرض القانون نتحدّث عن دولة شمولية استبدادية تتنكّر لقيم المجتمع المدني وتحيد عن مسار دولة القانون والمؤسّسات وهو ما يستدعي العنف لتكريس شرعيّة موهومة تستخدم آليات القسر والإملاء والقوّة لتركيز ديمومة النظام على حساب إرادة المواطنين. وهو أحد أهمّ علامات ضعف الدولة وتراجعها وبداية نخرها من الدّاخل.
يصعب اختراق مؤامرة الصّمت مع توافر النقد الذي يتوسّل لغة متحذلقة مزخرفة لا تكشف الهنات أو تُعرّي السوءات، ناهيك عن المديح والتقريظ والإطراء والتزلّف، والأخطر من ذلك أصحاب النّفوس المهزومة الذين يأتون دائما لقتل أيّ نجاح ولا يتركون العقول النافذة تعمل بإبداع، ومن الممكن في أفق مفهومي من هذا القبيل أن تكون المهمّة الرئيسة للقوى المدنية التقدّمية والتحديثيّة بناء الهويّة الوطنية الجامعة التي تقي الوقوع في فخّ الانقسام القبلي أو الاثني أو الطّائفي أو المذهبي، وبمعنى أدقّ سيطرة العلاقات التعاقديّة بين الأفراد وتفوّقها على العلاقات الطبيعيّة الوشائجيّة التي تُغيّب المجتمع الكلّي المتكامل وتُحوّله إلى جزئيّات متناحرة ومتنافسة فيما بينها بما يفضي في المحصّلة النهائيّة إلى دولة ضعيفة تنتج حالات انفصاليّة وليس مجتمعات مدنيّة متقدّمة تعمل على تطوير المجتمع ومراقبة مؤسّسات الدولة التي تميّز نفسها عن النظام ولا تتماهى معه فتساهم في تغوّله.
وبين تجديد الفكر والارتقاء بالذّهنيات تتحدّد مسؤولية النظم السياسية ومهمّات المثقّفين الحقيقيين أصحاب الفكر التنويري الذين يفقهون مطالب المرحلة وضروراتها. فالدولة تشكيل اجتماعي بالدرجة الأولى يمنع نزوع الفرد لانتماءاته المولودة، وهي وُجدت لتمنع النزوع الطائفي والاحتراب الديني والاثني بأنواعه. ويبدو أن الدولة العربية لم تنجح في ذلك، فالفساد والظلم والاستبداد والقسر منعها من جعل شعوبها تُعزّز صفة الانتماء الهوياتي والحضاري ضمن إطار عروبي جامع، في المقابل استسلمت دول المنطقة لسياسات الهيمنة والسيطرة العسكرية والاقتصادية والثقافية.
واذا ما كانت علاقة الدول في فترة القرن العشرين على شاكلة دول مستعمِرة وأخرى مستعمَرة، دول تعيش تحت هيمنة الأولى عسكريا واقتصاديا وسياسيا، فانّ عصر ما بعد التحرّر الوطني أفرز علاقات أخرى غابت فيها السيطرة العسكرية المباشرة مقابل سيطرة ثقافية واقتصادية، فأوقعت دولا في تبعية دولٍ، وصارت دول في موقع المركز وأخرى في موقع المحيط، وظلّت الدول العربية وغيرها من دول العالم الثالث في تبعية للدول الاستعمارية تتحرّك في محيطها سياسة واقتصادا وثقافة ومعرفة. ولم يكن ممكنا في ظل انعدام التوازن بين الدول القوية والأخرى الضعيفة إقامة علاقات تكامل وحوار فيما بينها لأنّ الحوار الثقافي والسياسي لا يتمّ إلّا في ظلّ التوازن والتعادل والتكافل ودون ذلك تكون العلاقات علاقات تبعية تسمح للأقوياء باستغلال الضعفاء. وفي الأثناء فشل الفضاء الثقافي العربي كما يبدو في اجتراح نموذج توافقي وفي تطوير موقف نقدي تجاه ما يصدر من أفكار يتمّ تبنّيها عند السّواد الأعظم من الناس على اختلاف مراتبهم الفكرية، وهو ما أخلّ بمبدأ البحث عن الحلول الحقيقية لمواجهة المتغيّرات الدولية خارج منطق الاستسلام والمغالطة والتّبرير.
٭ كاتب تونسي
لطفي العبيدي