حمّلت قمة الرئيسين بوتين وترامب في هلسنكي، قبل انعقادها، الكثير من التوقعات. وبقدر تلك التوقعات المرتفعة كانت خيبة الأمل، على الأقل من أداء ترامب، في الرأي العام الأمريكي بصورة خاصة. وبلغ الأمر بالرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية جون برينان أنه اتهم ترامب بـ«الخيانة الوطنية». كيف لا، وهو ينحاز إلى رواية بوتين في موضوع التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في عام 2016، منتقداً المؤسسات الأمريكية، وأجهزة الاستخبارات بالذات؟
إنه حقاً أمر لافت بغرابته أن يتعامل ترامب مع البلدان الحليفة للولايات المتحدة بعدائية ظاهرة، مقابل تودد مخزٍ لقادة من نوع بوتين وكيم جونغ أون وغيرهما من النماذج المنبوذة في الرأي العام الغربي. وهكذا قالت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت، بحق، إنه أول رئيس للولايات المتحدة معادٍ للديموقراطية.
يقال إن الفريق الأمني في الإدارة الأمريكية قد أعد ملفاً لترامب، من أجل قمة هلسنكي، من مئة صفحة للاستنارة بمحتوياته قبل اللقاء مع بوتين، فلم يقرأ صفحة واحدة منه! لقد دخل إلى الاجتماع مع الثعلب الروسي بلا أي استعداد، كما لو كان يفتح حسابه على تويتر لينشر تغريدة جديدة، أو سلسلة تغريدات قائمة على الجهل المطبق، على عادته.
يتضح ذلك أكثر ما يتضح فيما قاله، في المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الروسي، بشأن الوجود الإيراني في سوريا. فترامب الذي ملأ الدنيا ضجيجاً حول نيته بطرد الإيرانيين من سوريا والإقليم، اكتفى، هذه المرة، بالحديث عن وجوب عدم السماح لإيران بالاستفادة من هزيمة داعش! تذكرنا هذه الصيغة الملتبسة، بل المائعة، بصيغة سلفه باراك أوباما الذي كان يردد أنه يجب ألا يستفيد نظام بشار من هزيمة داعش. وهو ما قد يشير إلى قبول بقاء الإيرانيين في سوريا ـ باستثناء المنطقة المحاذية لإسرائيل ـ كما انطوى منطق أوباما المذكور على القبول ببقاء نظام الأسد. فهل هذه هي نهاية الاستراتيجية الأمريكية الطنانة التي أعلنها وزير الخارجية بولتون، قبل حين، لاحتواء النظام الإيراني؟
يمكن الاستدلال بردود الفعل الإيجابية في كل من موسكو وتل أبيب، لمحاولة معرفة ما جرى بين ترامب وبوتين. فبخلاف الرأي العام الأمريكي المصدوم بما «حدث» في هلسنكي، لوحظ ارتياح كبير في وسائل إعلام كل من روسيا وإسرائيل (وربما إيران؟). الأمر مفهوم، إلى حد كبير، بالنسبة لإسرائيل، بالنظر إلى أن النقطة الأبرز التي اجتمع عليها الرئيسان، في المؤتمر الصحافي، هي اتفاقهما على وجوب الحفاظ على أمن إسرائيل. ويبدو أن المسألة السورية برمتها قد اختزلت، في الوقت الراهن، إلى هذا الأمن الثمين. وهو ما ترجم ميدانياً، بشكل فوري، في الغارات الروسية ـ الأسدية على مناطق في محافظة القنيطرة، خلفت أعداداً من القتلى، وفراراً جماعياً من السكان المدنيين باتجاه الشريط الحدودي مع إسرائيل. ما يعني أن تل أبيب مستعجلة لعودة النظام إلى الشريط الحدودي، مع نزع سلاحه الهجومي (وهو ما التزم به النظام طوعاً)، لإعادة تفعيل اتفاقية فض الاشتباك للعام 1974، كما قال الروس.
كذلك مفهوم هو الارتياح الروسي لنتائج القمة التي بدت، في شكلياتها البروتوكولية على الأقل، نوعاً من العودة إلى الثنائية القطبية التي سادت في حقبة الحرب الباردة، واعترافاً أمريكياً بندية روسيا في رسم مصائر العالم. لكنها عودة هزلية حقاً، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الدولة العظمى الوحيدة، الولايات المتحدة، يحكمها ضفدع صادح الصوت على حلفائه الغربيين، كما على صحافة بلده ومؤسسة الحكم الراسخة فيه، مسحوق أمام نظيره الروسي؛ وأن الدولة الأخرى، روسيا، دولة هشة وهزيلة، على كل المستويات، يحكمها بلطجي أقوى منها. لا يمكن تصور قيام نظام دولي جديد، على ما يطمح كل من بوتين وترامب ـ من منظورين مختلفين ـ بين دولة ضفدع بقائد ذي عضلات، ودولة عملاقة برئيس ضفدع.
تراجع ترامب، بعد القمة، عن تشكيكه برواية المؤسسات الأمريكية بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية. من المحتمل أنه دخل مرحلة من الخوف الجدي على منصبه بعد توجيه قاضي التحقيق مولر اتهامات إلى 12 ضابط استخبارات روسيا، إضافة إلى جاسوسة روسية عملت «على الأرض» في واشنطن، بالتدخل في العملية الانتخابية لمصلحة حملة ترامب وضد منافسته الديمقراطية كلينتون، وبعد موجة الغضب العارمة، في الصحافة والكونغرس والمحفل الاستخباري، على أدائه الذليل أمام بوتين في قمة هلسنكي.
ترى هل تبدأ المؤسسة الأمريكية خطواتها باتجاه عزل الرئيس، لتعود الأمور إلى نصابها؟ أم أن ترامب يتجاوز كونه ظاهرة أمريكية شاذة، إلى كونه معبراً شفافاً عن حال الانحطاط التي يمر بها عالمنا؟
٭ كاتب سوري
بكر صدقي