طرابلس الشام/ طرابلس لبنان

حجم الخط
2

الذي يزور قلعة صنجيل وينحدر منها الى طرابلس القديمة يصاب بشهقة القلب، انها المدينة الأجمل على الساحل الشامي الممتد من اللاذقية الى غزة. مدينة الذاكرة التي لم تنقطع منذ طرد الجيوش الافرنجية من مدن الساحل. هنا تتلألأ العمارة المملوكية في ابنية تشبه القلائد، وهنا ايضا تولد ذاكرة عطر البرتقال والنارنج الذي اعطى المدينة اسمها، فأصبح لقبها اسما ثانيا تفوق على اسمها الأول في لغة اهلها، وصارت ‘الفيحاء’.
هنا في الفيحاء يتحاور الحاضر مع الماضي بلا تعقيدات، فما بقي من الغزاة ليس سوى معالم استطاعت المدينة ان تحولها الى جزء من هويتها. حتى بقايا الافرنج، الذين اطلق عليهم الغرب اسم الصليبيين، الذين حافظوا على اسماء عائلاتهم الاصلية أسلم معظمهم، وصاروا جزءا من نسيج المدينة التي بنيت حول القلعة.
اما طرابلس في الزمن الحديث فكانت مدينة الحركة الوطنية، رفضت سايكس بيكو بعناد المكان الذي يرفض ان يغادر مكانه، وعندما قبلت اللعبة اللبنانية، ادخلت اليها نكهتها الوطنية. فهي سورية مع المملكة الفيصلية، ومصرية مع الجمهورية العربية المتحدة، وفلسطينية مع الفدائيين. كما انها كانت بمدينتيها: طرابلس والميناء احدى قلاع اليسار اللبناني. وفي الحرب الأهلية انتجت ظاهرة ثورية متميزية، اوصلها خليل عكاوي الى ذروتها باستشهاده التراجيدي وهو يموت اغتيالا على ايدي أجهزة النظام السورية.
احياؤها الشعبية، وخصوصا باب التبانة، كانت نافذتها الى انتفاضة فلاحي عكار في اوائل السبعينات، كما كانت مدخلا الى تجربتها مع المقاومة الفلسطينية.
هذه المدينة التي لا تزال تحتفظ في لهجتها بالألف التي تتحول واوا على الطريقة السريانية، كانت المكان الذي تشعر فيه ان جذورك كمواطن تضرب عميقا، فهي ليست جديدة كبيروت، ولا صغيرة كصيدا، انها المدينة بما يحمله نسيجها من اندغام في ثقافة متعددة، وبما يحمله مطبخها من نكهات آتية من شاميتها.
كما انها بوابة غابة ‘ارز الرب’، كما يسمي اللبنانيون غابة الأرز الصغيرة في بشري، هناك وسط الأشجار الألفية التي تعيد الداخل اليها الى ملحمة جلجامش، يفوح الأرز برائحة الزمن، وعطر الأرض.
المدينة المليئة بالمعالم العمرانية الساحرة، التي جعلت من طرابلس النموذج الوحيد للعمارة المملوكية، يتم تحويلها اليوم الى خط تماس بين سورية وسورية. سورية النظام الاستبدادي وسورية الثورة الشعبية. لكن للأسف فان خط التماس هذا فقد عذريته، تماما مثلما فقدت او أُفقدت الثورة السورية عذريتها، فاذا به يتحول الى خط تماس سعودي- ايراني مشتعل، واذا بأدوات الجريمة التي صنعها النظام الاستبدادي في سورية تطل برأسها من جديد عبر التفجيرين المروعين اللذين ضربا المدينة.
الفقر الذي ينتشر في احياء طرابلس الداخلية ويمتد الى سهل عكار، جاعلا من الشمال اللبناني المنطقة الأكثر تململا في لبنان، هو نتاج سياسة التجاهل التي صنعها السياسيون الطرابلسيون، الذين لا يريدون من مدينتهم سوى اصوات الناخبين، ولم يعملوا طوال العقود الماضية على بناء مشاريع منتجة، تنقذ ميناء المدينة من الركود، وسكانها من البطالة.
عندما تتجول في المدينة القديمة تصاب بالذهول من الاهمال، كأن اصحاب الملايين في المدينة يكرهون مدينتهم التاريخية، ويتطلعون الى النموذج الخليجي، حيث راكموا ثرواتهم، وهم في ذلك لا يختلفون عن المضمر في مشروع اعمار بيروت، الذي قام بمحو ذاكرة المدينة.
في طرابلس اليوم تختلط الأمور على الجميع، فقراء يقتلون فقراء، والأغنياء والقتلة الحقيقيون يتفرجون على المدينة بوصفها نافذة على الموت.
هذا لا يعني ان الجرائم التي ترتكب في الفيحاء يجب ان لا تُعاقب، فهذه مسألة اخرى مرتبطة بموت السلطة اللبنانية السريري، كما لا يعني ان نغمض عيوننا عن رؤية البعد التراجيدي الذي جعل من الجغرافيا قدر هذه المدينة.
طرابلس تنزف ككل المدن في سورية، ونزيفها يحمل رائحة الحرب الطائفية التي تقاد اليها سورية بسبب التدخل الخارجي الذي يريد قتل الثورة واستبدالها بالحرب الأهلية.
اللغة الطائفية صارت عارية هنا، وهذا ليس مسؤولية الطرابلسيين وحدهم، بل هو مسؤولية لبنانية عامة، يتحملها اولا واساسا انهيار سياسة النأي بالنفس وعساكر حزب الله التي اندفعت الى جانب الوية ابي الفضل العباس الشيعية العراقية الى سورية، من اجل انقاذ النظام الاستبدادي، تحت حجج طائفية جسّدها شعار ‘زينب لن تُسبى مرتين’، الذي انتشر في بيروت الى جانب صور جنود حزب الله الذين سقطوا في سورية.
ما قام به حزب الله ليس خطأ فرضه التصاقه بالأجهزة الايرانية فقط، بل هو اعلان صارخ بأن الحدود اللبنانية لم تعد موجودة. فحين تستباح حدود سورية من لبنان فهذا يعني ايضا ان لبنان صار بلا حدود. لقد ادخلت الطوائف المسلحة مفهوما جديدا للحدود الجغرافية هو الحدود الطائفية، وهي حدود مائعة وسائلة، لا تعني سوى ان الحروب الطائفية بلا حدود او قواعد.
ألم يفكر دعاة ‘الممانعة’ بأن السكوت الأمريكي والاسرائيلي عن دخول عساكر حزب الله الى سورية يثير الريبة، ويشير الى قرار بتحويل سورية الى حقول للقتل والموت؟
طرابلس لبنان تنزف بوصفها طرابلس الشام، وطرابلس الشام تجد نفسها غريبة عن لغة طائفية تهيمن عليها.
غربتان تعيشهما المدينة، وسط معركة مفتوجة سلاحها القصف والقنص.
مأساة طرابلس ليست في هذه الحرب الدائرة التي لا تشبه الحرب فقط، بل في قرار تحويلها الى مدينة معلّقة على ابواب الخراب.
انها بهذا المعنى تستعيد حكاية حروب لبنان الطائفية كلها، وهي حروب يتحول فيها المحارب الى وكيل، لأن منطق الحرب الطائفية هو تحويل المكان الى ساحة، وتحويل الاطراف المحلية المتصارعة الى اطياف تعمل وفق منطق خارجي تهيمن عليه القوى الأقليمية.
مأساة سورية هو تحولها الى ساحة من هذا النوع، وفي الساحات كل شيء مباح.
اما مأساة طرابلس فهي اشارة الى ان لبنان كله مهدد بأن يتحول الى طرابلس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عاطف - فلسطين 1948:

    دائما رائع.
    الشيء المخجل في هذه الحرب الطائفية ان الاطراف المتناحرة لا تدرك حدود منطقها ووجودها. فهي ترى ان فبر السيدة زينب هو افصى مفهومها وخيالها ويجب الموت لاجله. طيب يا اخوان اعذروني انا مسلم – والله لا ادري عن اي زينب تتحدثون؟؟ هل هذا معقول ام نموت لاجل فبر . دعونا نبسط الامور ولنر كم نحن اصبحنا تفاهات امام الحضارات الاخرى – تخيلوا لو ان احدكم يريد ان يشرح لفرنسي او امريكي بسيط من عامة الشعب قضية معاوية وعلي فكيف له ان يشر ح ذلك دون ان يبدو متخلف عقليا.ماذا كنا نقول عن الجدال السفسطائي داخل الكنسية الشرقية بان الكهنة وصل بهم الغباء ان يسألوا كم ملاك يمكن ان يقف على راس الابرة – هل نقاشنا افضل من هذه القصة, ام اننا خير امة اخرجت للناس فيجب ان نموت بكل ثمن لنثبت شيئا ما- يجب على مشايخ السنة والشيعة ان يقبروا انفسهم تحت الارض بسبب ما جلبوه من عار للعرب والمسلمين – هذا هو عصر الانحطاط ان نذبح انفسنا لاجل الموتى.

  2. يقول احمد العربي:

    أخي عاطف ..تحياتي
    مااروع كلامك ياليت شباب هذه الامه يخلعون رداء التخلف ويتطلع الجميع الى حاضرهم ومستقبلهم وكيف سيبنون اوطانهم متحدين في هذا العالم الذي لايعترف الا بالكيانات القويه ..انا لاأ ظن ان هناك شعوب على وجه الارض تتقاتل من اجل اناس قضوا منذ الاف السنين وقضيتهم من كان على حق ومن كان على باطل ؟ ويعيدون احياء الحزبين وكأن الحرب اياها مازالت قائمه بكل مافيها من احقاد وجهاله مابعدها جهاله ! دعونا نتجاوز هذه الترهات ونفكر كيف نبني اوطاننا كيف نشكل احزابا لاتعترف بالمذاهب ولا بالاثنيات ولا بالاساطير جميعها ..الجميع يعيشون على ارض واحده ومصالحهم واحده ومصيرهم واحد وعدوهم واحد ..ولغتهم واحده فلماذا يعطلون عقولهم وينبشون الماضي السحيق ليجدوا اسباب الاقتتال والفرقه والموت والخراب .!!صدقني الناس طيبون لكن اصحاب المصالح ضحكوا عليهم مستغلين كل الثغرات المتوفره لاجل تحقيق المصالح السياسيه وتثبيت النفوذ هذا مع الاسف الشديد! يراد لهذه الامة حقبة من التخريب ولكل مجتمع ثغراته التي يدخل منها الاعداء في الشرق العربي المذهبيه والطائفيه وفي المغرب العربي وفي ارض الكنانه وجدوا ثغرات أخرى لتحقيق نفس الهدف ونفس المشروع الا وهو اضعاف الامة وتفتيتها ونهب خيراتها الى حيث ماشاء الله!

إشترك في قائمتنا البريدية