علينا أن نقيّم بعناية العقائد المهيمنة على الخطاب الفكري الذي يُروجُ لليبرالية والخصخصة، فالأمر أصبح مُوكلا بالشركات عابرة القارات، التي تتحكم في الاقتصاد العالمي بنسب كبيرة جدا، وهي تتحكم بالفكر والإعلام أيضا، وتُهندِسُ السياسات من خلال إمكانياتها الضخمة ونفوذها المالي الممتد.
وحيث كثفت موجة العولمة ديناميكيات الاقتصاد العالمي بالدفع نحو استفادة المركز على حساب الأطراف، يزداد الوضع قتامة في نطاق قُطْري كذلك، عندما تستهلك الرأسمالية الجديدة الطبقة الوسطى وتترك المجتمعات في حالة ارتباك بالغ الشدة، وهي تُنذر باضطرابات اجتماعية وانتفاضات شعبية هي نتاج عكسي لمثل هذا النظام المتردي، الذي تعجز فيه الإنسانية على خلق فضاء تعايش اجتماعي وإنساني عادل .
تأسيسا على ما تقدم تمنع الشركات متعددة الجنسيات وأصحاب النفوذ المالي وجود ديمقراطية سياسية حقيقية، والنظم السياسية في أغلب دول العالم تخدم الأقلية الغنية ولا تهتم بالأكثرية، وليس ذلك بالأمر المستغرب إذا كان الطرفان هما المستفيدين من بقاء الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي كما هو. وفي هذه المنظومة المتعفنة يتم شراء الانتخابات والحرص على إيصال «واجهات» سياسية حاكمة لحماية أصحاب النفوذ المالي والاقتصادي، ولا سبيل يُرجى للبحث عن الديمقراطية ودولة القانون من وراء من يحكمون شكلا، وهم المسيرون وفق منطق المصالح المشتركة، ومع ذلك يرغبون في أن يجعلوا الوضع المزعج يبدو منطقيا، ويُوفرون لذلك «الأوهام الضرورية» ليبدو النظام الرأسمالي الليبرالي هادفا إلى الخير العام وضروريا ومرغوبا فيه. ويتم ذلك عبر مجموعة هائلة من الآليات المؤسساتية، ويجب أن لا يكون هناك من يُعادي الشركات والتوجهات النيوليبرالية، وهنا يجد المفكرون الملتزمون بالديمقراطية صعوبات في مواجهة السياسة الإعلامية، التي تخدم مصلحة الأقوياء أصحاب النفوذ المالي، التي تدفع باتجاه الشعور بالاستسلام لدى ملايين البشر، في ظل الأزمنة السياسية والاقتصادية اللاأخلاقية .
اقتصاد السوق العالمي الذي سرّع الاتصال الدولي وحجّم تدفق رؤوس الأموال فتح الأبواب أمام حقبة جديدة من الرأسمالية، التي أقصت كل القيود وشجعت على التجارة الحرة والأسواق المفتوحة من دون حواجز، وهي مسارات مُكملة لإجماع واشنطن المشكل للنظام النيوليبرالي، الذي نص على تحرير قطاعي المال والتجارة والقضاء على التضخم وخصخصة المنشآت الحكومية والسماح للأسواق بتحديد الأسعار بشكل حر، وكان هذا الإجماع بمثابة عهد امبراطوري جديد أقصى الحكومات المحلية، وأصبحت «المصلحة الوطنية» بمثابة الوهم الكبير، كما وصفها آدم سميث في اهتمامه «بثروة الأمم».
وربما لا نعدو الحقيقة عندما نقول بأن قطاع المال والأعمال يُمسك بخيوط صنع السياسات في النظام الدولي الحالي، والأمر تم التمهيد له منذ خطة «مارشال» التي مهدت الطريق لاستثمارات أمريكية ضخمة لإعادة إعمار أوروبا المتضررة من الحرب العالمية، ومنذ ذلك الحين والهاجس الأمريكي يكمن في خلق فرص للاستثمار، وإن كان ذلك بإشعال الحروب وتدمير البنية التحتية للدول، من أجل السيطرة على تدفقات المال والأعمال، وتوطين الاستثمارات فيها، ناهيك عن صفقات السلاح. وهكذا رسم صناع السياسة خططهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بواسطة مظلة القوة والإكراه في أغلب الأحيان، خاصة مع تحول العالم الصناعي منذ ذلك الحين إلى اقتصاد قائم على النفط بالدرجة الأولى، ما يُفسر تفاقم النزاعات الدولية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي ترغب القوى الكبرى في السيطرة عليها وحرصت الولايات المتحدة بشكل خاص على ذلك، وهي إلى الآن تُصارع المتغيرات الدولية والمنافسين الاستراتيجيين لضمان السيطرة على هذه الجغرافيا التي تتمتع بثروات طائلة، وتوفر أهمية استراتيجية لا تضاهى في أي مكان آخر من العالم الآهل.
يمكن البحث عن عالم آخر ممكن، بعيدا عن طموحات السيطرة وجنون الهيمنة يكون من الضروري فيه إعادة تنظيم قواعد الاقتصاد الدولي بشكل عادل، بعيدا عن الوضع الاقتصادي الراهن الذي بقي على حاله منذ إجماع واشنطن وتحرير السوق ورفع الحواجز وسيطرة رأسمالية التمويل على الاقتصاد العالمي. ونعتقد أن جلب قدر من السلام والعدل إلى عالمنا أمر ليس خارج مدركاتنا الواقعية وإمكاناتنا الإنسانية إذا ما توفرت الإرادة ورُجحت البصيرة.
كاتب تونسي
لطفي العبيدي