«الساعة الخامسة والعشرون» لقسطنطين جيورجيو: الرواية والتأمل النقدي التاريخي

حجم الخط
0

لقد شكلت الأحداث الكبرى التي شهدها العالم كالحربين العالميتين والحقبة الاستعمارية ما يمكن أن نطلق عليه «رؤية العالم»، ولكن من منظور جديد. هذا المصطلح الاختزالي الذي يعني في مجال الدراسات الثقافية جماعة من المتكلمين، تتشارك الإيمان في جملة من المعتقدات تتصل بالعالم، وتتعالق باللغة والخطاب. ومن هنا، يلاحظ أن معظم تلك الأحداث كانت سببا ونتيجة في الآن ذاته، فعملية التطور التي شهدتها أوروبا انطلاقا من عصر النهضة وصولا إلى أفول الحقبة الاستعمارية الكلاسيكية احتملت قدرا من التحول الفلسفي والقيمي في رؤية العالم، كما صوغ خطابه. فهذه الحروب أسهمت في إطلاق أوروبا لمنظومة قيمية جديدة بغية التخلص من مخلفات الحرب التي أحدثت دمارا هائلا، فكان لا بد من إعادة تعريف الوجود الأوروبي بهدف تجاوز الأزمات التي أنتجتها الحروب، فضلا عن تجاوز الصراع على المستعمرات، من منطلق أن الدول الكبرى تحتاج إلى أسواق ومواد خام.
غير أن هذه النزاعات والحروب ما لبثت أن أصبحت إرثا ينبغي عدم نسيانه، إنما يجب التعلم منه عبر تطوير آليات نقد جديد للعقل الأوروبي. ومن هنا، كان الأدب أداة من أدوات هذا النقد. فالرواية والسينما اعتمدتا على توصيف تلك الحقبة ونقدها بغية تأمل التاريخ، ونواتجه، ومن ذلك رواية قسطنطين فيرجيل جورجيو «الساعة الخامسة والعشرون» 1949. وهي تتناول في تكوينها العام مصائر عدد من الشخصيات التي طحنتها الحرب، بالتراصف مع نقد قيم التطور التقني الأوروبي الذي كُني عنه بزمن الآلة، حيث ظهر ما يمكن أن ننعته بالعبد التقني الذي يسيطر على البشر، ويتحكم في حياتهم، في حين تبرز الآثار أو المرجعيات اللاهوتية لمؤلف الرواية، حينما يتحدث عن العبيد التقنيين الذين سوف يتحولون إلى وحوش، وهذا يأتي تصديقا لمقولة يوحنا الإنجيلي حينما تحدث عن أبوكاليبس الوحش الرمزي.
الرواية في تكوينها السردي تتناول شخصية إيوهان موتينز الشاب الروماني الذي تزوج فتاة اسمها سوزانا، غير أن أحد أفراد الشرطة يطمع بالزوجة الجميلة، فيقوم بالادعاء بأن الفلاح إيوهان مورتينز يهودي؛ ليدفع اسمه للجهات المختصة كي يرسل إلى معسكرات العمل أو الاعتقال، وهكذا ينتقل مورتينز مرتحلا بين العديد من المعتقلات التي تتجاوز حدود رومانيا لتشمل هنغاريا وألمانيا، وبعض المعسكرات الأمريكية التي نتجت بفعل مشاركة الولايات المتحدة في الحرب على الأراضي الأوروبية.
تُبنى الرواية على عدة مقولات ثقافية تستند إلى مفهوم الحقبة الصناعية التي تجعل من الإنسان في أدنى قدر مقابل هيمنة الآلة. هذا التوصيف لسيطرة الآلة يعدّ أحد إفرازات الثورة الصناعية، كما يبدو إنذارا مستقبليا يتنبأ بحتمية التطور مقابل تلاشي الفرد بوصفه إنسانا يتراجع حضوره مقابل الآلة. إذ جاء على لسان الكاهن كوروغا – الساعي لمساعدة مورتنيز من خلال إقناع المحافظ الروماني ببراءة مورتينز: «إنني لا أستطيع الاعتقاد بأنك لم تفهم شكواي. إنك إنسان، والإنسان ذو شعور وأحاسيس وروح. إن الإنسان ليس آلة». هذه العبارة إحالة إلى مقولة أن المجتمعات الغربية الصناعية أو التكنولوجية تختزل البشر إلى أشياء بحيث تنفي عنهم الصفات الإنسانية ليتحولوا إلى أدوات تخضع لسيطرة التقنية، وهذا يحدث تبدلا في نمط السلوكيات وثقافة البشر. هذا الوعي يبرز ضمن أسس التحول في الرواية، إذ ينذر بقيمة تحذيرية، غير أن هذا النهج الذي ينتشر في الرواية يتزامن مع هيمنة مفاهيم؛ أهمها التمحور المتكرر للهولوكوست على الذاكرة الأوروبية، على الرغم من عدم الاستقبال الجيد للرواية من قبل اليهود، ورفضهم لمجمل أعمال الكاتب الذي اتهم بمعاداة السامية، مع أن الرواية تقوم بنقد القيم العنصرية والعرقية، كما تجلى في الحديث عن اهتمام أحد الضباط العلماء الألمان بمورتينز بوصفه ينتمي إلى عرق متميز.
لا شك في أن رؤية الكاتب تبدو منكرة بوضوح للتشكيل الجديد للمدنية الأوروبية القائمة على أنظمة تفتقر للروح الإنسانية، كونها تختزل الوجود إلى قيم مادية، مع التأكيد على تصدير هذا النهج إلى العالم المستعمر. فالبشر كما في عالمنا العربي المعاصر يعانون من سلطة الدولة التي برزت بوصفها نظاما، غير أنها لم تجلب لمواطنيها السعادة، إنما على العكس من ذلك، فقد هدرت كرامتهم في مجتمعات شديدة الضعف والهشاشة. ففي إحدى حوارات الرواية نقرأ نقدا لهذه المفاهيم السلطوية للدولة البيروقراطية الغربية الحديثة حيث جاء: «إن البيروقراطي والجيش والحكومة والتنظيم الحكومي والإدارة. كل هذه الأشياء، تساهم في تسميم الجو ليختنق الإنسان».
تنهض الرواية في خطابها على رثاء مفهوم الإنسان في عصر متحول شديد التعقيد، ففي مجال ضيق من المفهوم للبعد للإنساني الفردي، في ما يتعلق برغبة «الشرطي» أو الدركي الروماني في الحصول على زوجة مورتينز، غير أن الرواية سرعان ما تنزع هذا التمثيل الاجتماعي، وتتنازل عنه لتتجه إلى نقد الخطاب المتعالي الذي صاغ وعي أوروبا بدءا من القرن الثامن عشر، حيث شكلت النزعات القومية مجالا من الصراع الذي انتهى إلى عواقب وخيمة ابتداء من الربع الأول من القرن العشرين؛ ما اضطر أوروبا للتعلم، ومحاولة تجاوز الأطر الضيقة التي تتصل بتعريف الهوية بناء على العرق واللون واللغة.
تسعى الرواية إلى تحقيق خطاب تحذيري لأفول القيم الإنسانية عبر نموذجين تمثلهما شخصيتان سرديتان، هما مورتينز والكاتب تريان كوروغا، على الرغم من الاختلاف التوصيفي بينهما، فالأول فلاح بسيط غير متعلم، أما الثاني فكاتب وروائي ينطلق من مفاهيم كبرى تتمحور حول العالم في تشكيله الجديد. غير أن كلا الشخصيتين تنتهيان إلى تجريدهما من إنسانيتهما. تقترب الرواية في خطابها من الحكم على أوروبا بالانتهاء والتلاشي نتيجة ذلك الفقر والضمور الشديد في تقدير البعد الإنساني الفردي الخالص، ولا سيما عندما نقرأ أن أوروبا اختزلت بعقلها ونظامها الحديث القيم الإنسانية إلى قيم شيئية، حيث لم يعد يُلتفت لتمثيل الإنسان بوصفه وجودا بشريا، إنما اختزلته إلى أرقام وعلامات وأوراق، وهكذا فهي لم تعد تنظر إلى قيمته أو حقيقة وجوده. إن مشكلة الغرب ـ كما جاء في الرواية – سعيه لأن يعطي الحياة هدفا موضوعيا، حيث تتحول الحياة إلى إحصاء، وهكذا لم يعد الإنسان إنسانا إنما أصبح مواطنا.
فمورتينز الذي نبذته الأوطان الأوروبية تبعا لإشكالية اسم العلم المتعدد والإشكالي: روماني ومجري، ويهودي، وألماني، أو تبعا لجنسيته، أو ديانته (مسيحي – يهودي)، غير أنه لم يكن في الحقيقة سوى إنسان بسيط، وطيب، لا يرغب في شيء سوى أن يعود إلى بيته وزوجته وأطفاله، وأن يعمل في أرضه، بل إن مسلكه الذي انتهجه تجاه البشر بما في ذلك الأعداء، كان أقرب للحكم عليهم من منطلق إنساني، لا من منطلق أيديولوجي أو عرقي، فهو قد أحب سوزانا، وتزوجها، كما أحب أيضا زوجته الممرضة الألمانية، في حين أنه ساعد الفرنسيين على الفرار، كما ساعد صديقة الروائي تريان كوروغا (الروماني) في معسكرات الاعتقال، كما قدم يد العون لليهود الفارين من رومانيا، لقد قدّم العون لكل إنسان بغض النظر عن الانتماء العرقي، أو الأيديولوجي، أو حتى الدين، لقد كان معياره الوحيد تقديره للقيمة الإنسانية التي ينطوي عليها الوجود بذاته. وهذا ما دفع مورتينز لأن يتساءل عن معنى القدر في تصريف الأحداث، ففي الليلة التي التقى بها سوزانا تنتج سلسلة الأحداث بوصفها نتائج، فلو سقط المطر لما ذهب للقاء سوزانا.
هذا التفكير يندرج في خانة التفسير البشري للحدث، وللوجود القائم على معنى الصدفة بما في ذلك الاسم واللون والعرق والديانة، وهذا ما يتطابق مع تعليق الروائي تريان كوروغا في توقعه لأحداث مؤلمة، حيث سيتحول البشر إلى فئران لا يعرفون أين يذهبون، وهذا يأتي كناية عن الحرب والثورة، أو تلك الأفكار والنزعات والأيديولوجيات والعنصرية التي سادت في أوروبا، ومنها الشيوعية والنازية والفاشية، وحتى الرأسمالية الغربية، حيث الكل يحاول تصفية الآخر لكونه يهدد وجوده، ونموذجه والد سوزانا إيورغو إيوردان المؤمن بفكرة الاختلاف، حيث ينتهي منتحرا في بيت زوجة مورتينز الألمانية بعد سقوط برلين.
مع أن الرواية تنهض على نمط تقليدي من حيث التشكيل والرؤية، حيث تبدو صيغ السرد آمنة لا تحتمل أي مغامرات، سوى تلك القدرة على تمكين المحكي ضمن بعد متخيل يحتكم للأفق التاريخي، والتمكن من تفعيل الشخصيات ضمن بناء محكم، ومع أن المتن قد تجاوز 500 صفحة – في الترجمة العربية – بيد أنها كانت تمضي سريعا نتيجة أن المتلقي متعلق بالحدث أو لنقل بالشخصيات المحوريات، ومنطق الحكاية، وأعني مشكلة مورتينز، بالتجاور مع بعض الشخصيات الأخرى، ومنها شخصية تريان كوروغا، وزوجته اليهودية، بالإضافة إلى الكاهن «كوروغا»، وجميعها تبدو حافلة بالبحث عن خلاصها الإنساني في عالم بات محكوما بالأيديولوجيات والأنظمة الشمولية، ولا سيما في أوروبا الشرقية، ولكن النص لم يهمل النقد المباشر للديمقراطيات الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية، كون الأخيرة في مجمل سلوكها تسعى لأن تعيد صوغ العالم في مفاهيم جديدة تحتكم للمنطق الآلي الذي يخلو من أي روح.

٭ كاتب فلسطيني أردني

«الساعة الخامسة والعشرون» لقسطنطين جيورجيو: الرواية والتأمل النقدي التاريخي

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية