الأدب المصري والوجه الآخر لانقلاب يوليو 1952

 

القاهرة ـ «القدس العربي»: جاء انقلاب تموز/يوليو 1952 وحمل معه رياح التغيير القوية في مصر والوطن العربي، وكذلك دول العالم الثالث إذا أردنا الدقة، وكما هو حال الأدب، الذي تلون بهذا الانقلاب، فظهر أدباء كانت تحملهم الأماني في النظام الجديد إلى عالم من الخيال، فأصبح الأدب بوقاً للنظام الثوري والقمعي بعد ذلك في آن. وقد حوّل بعض الأدباء والكتاب، من خلال كتاباتهم المتواترة، الانقلاب العسكري إلى ثورة لها فلسفتها وتنظيراتها، التي قرّبت الأمر كثيراً لرجل الشارع العربي، وأشاعت الروح والمد الثوري في هذه المنطقة المتصارعة. لكن هناك بعض الأصوات التي كانت ترى وجهة أخرى لانقلاب العسكر هذا، وإن كان هناك نوع من الفصام قد سيطر على بعض هذه الأصوات، فهم يؤمنون بما أطلق عليه ثورة، من خلال الوعود والمنجزات، ولكن نظامها القمعي والشمولي وضع هؤلاء أمام ازدواجية ما زال البعض يعاني منها حتى الآن.

إرهاصات

كانت الأعمال الأدبية قبل يوليو تقدم نقداً للواقع، وتبشر بضرورة حدوث شيء ما، في ظل الظروف والأجواء المُربكة، التي كانت تمر بها مصر في ذلك الحين. فكانت كتابات عبد الرحمن الشرقاوي، ويوسف إدريس، و»عودة الروح» لتوفيق الحكيم، التي قال عنها عبد الناصر إنها ملهمته في ما قام به بعد ذلك، كما كانت هناك كتابات نجيب محفوظ، التي تحلل الواقع الاجتماعي، وتحاول بث روح التمرد، والروح العقلية والعلمية، تأثراً بأفكار سلامة موسى، بالإضافة إلى كتابات طه حسين والعقاد التحريضية، وإن كانت غير مباشرة. في هذا الجو العام المثمر، ومن خلال قيام الجماعات الوطنية، المُعلنة والسريّة كان للكلمة المقروءة ثقل لا يضاهى، رغم أمية الشعب المتفشية! فمجلة مثل «التطور» مثلاً، والتي سبقت عصرها بعصور، تناولت تحديد حلول المشكلات الاجتماعية المصرية، حتى أنهم قاموا بنشر مفصل لقانون الإصلاح الزراعي، الذي طبقه نظام يوليو بعد ذلك تطبيقاً شائهاً، وفق رؤيته الخاصة.

الفصام

ظن العديد من الكتاب والأدباء أن انقلاب يوليو هو التحقق الفعلي لما حلموا به من أفكار عن تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، ولكن البعض توجس خيفة من هذه الثورة/الانقلاب، خاصة وأن من قام بها عسكريون، وأن ذوي الأفق رأوا أنها في البداية والنهاية مجرد إنقلاب عسكري ــ راجع موقف نجيب محفوظ ــ ووفق هذا الظن الرومانسي، وما حاولته الحركة المباركة من احتواء الجميع تحت شعاراتها البرّاقة، بأنها الجانب الفعلي والعملي لأحلام هؤلاء، والمثل الأعلى الذي يجب تأييده، وإلا وضع المعارض تحت طائلة الخيانة العظمى. وحينما أثبت الزمن أن المبادئ التي نادت بها الحركة قد خالفها الواقع، بدأت الصدامات، فكانت حملات الاعتقالات للمخالفين في الرأي، وأن النظام الشمولي لن يرحم أحدا، ولكن الأدباء والكتاب انطلاقاً من رومانسيتهم الحالمة، لم يريدوا التصديق، وأرجعوا الأمر إلى رجال النظام، وليس نجم النظام الأوحد جمال عبد الناصر، ما جعل شهدي عطية على سبيل المثال يهتف بحياة عبد الناصر، وهو يتلقى الضربات داخل المعتقل، من قبل رجال عبد الناصر نفسه، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة!
بحثاً عن العدالة المفقودة

فتحت المنجزات الثورية الصورية الباب أمام جيل تمت تسميته بعد ذلك جيل الستينيات. الجيل الذي امتلأ إيماناً بالأفكار الاشتراكية، ومحاولة البحث عن تحقيق العدالة الاجتماعية، التي بشرتهم بها الثورة المباركة، واستمد هذا الجيل قيمة نضاله من السير في ركبها، وللمفارقة أن مَن سُجنوا أيضاً استمدوا قيمتهم من مخالفتهم الرأي للثوار العسكريين، فكانوا أشد حفاظاً على هذا النظام من أصحابه أنفسهم، فقيمتهم تتجلى في هذا التاريخ القمعي لنظام شمولي وفكري يؤصل لتاريخهم النضالي. ولكن هناك بعض الأصوات استطاعت رؤية ما هو مخالف للدعاية الإعلامية الهائلة، التي استخدمها نظام يوليو لتأصيل شرعيته الزائفة، واستمراره، من خلال الإذاعة والأعمال الأدبية متوسطة القيمة، والقاصرة على الحلم ــ أعمال يوسف السباعي كمثال ــ والأعمال السينمائية، التي رأت أن المفاسد كلها كانت في النظام الملكي الفاسد. بالإضافة إلى جهاز رقابي قوي، يعمل في خدمة النظام ليلا نهارا، حتى أن فيلم «يوميات نائب في الأرياف» وهو عن رواية توفيق الحكيم، ومن إخراج توفيق صالح، وكان يتعرض للظلم الاجتماعي في الريف، تم تغيير نهايته، والإيحاء بأن الأحداث تمت في منتصف الأربعينيات، أي في عهد الملكية البائدة! وفي مجال الرواية نجد أعمالاً أظهرت سلبيات انقلاب العسكر، مثل «اللص والكلاب» و»السمان والخريف» و»ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ، و»الأفيال» لفتحي غانم، و»الحب في المنفى» لبهاء طاهر، وكثير من الأعمال لأدباء من أمثال إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس، وجميعها يمكن اعتبارها رد فعل لأحداث المجتمع بعدها‏.

من تلك الرائحة إلى البكباشي

إلا أننا نجد أن الصوت الأعلى والأكثر تميزاً هو الكاتب صنع الله إبراهيم، الذي حاول رصد حقيقة ما يحدث، بخلاف الخطاب الدعائي الشائع، وتأتي روايتاه «تلك الرائحة» و»نجمة أغسطس» خير دليل على هذا الصوت المخالف، والباحث عن عدالة اجتماعية مفقودة، تم تصديرها في الحلم فقط. صدرت رواية «تلك الرائحة» عام 1966 قبل هزيمة 5 يونيو بعام واحد، وقد كشفت عن فساد نظام ديكتاتوري، لطالما ادعى الديمقراطية، والحلم الاشتراكي الزائف، البعيد كل البُعد عن الواقع المُعاش، ففضحت المستور من خبايا النظام العسكري، الذي ما زالت تعاني منه مصر حتى الآن. تمت مصادرة الرواية في طبعتها الأولى، ثم نشرت بعد ذلك غير مُكتملة، حتى أن الطبعة الكاملة الوحيدة، في نصها الأصلي ظهرت بداية من عام 1986.
يخرج المؤلف/الراوي من السجن، ليكتشف المسافة الشاسعة بين الحلم والواقع، الحلم الثوري، الذي لا يعرف سبب دخوله إلى السجن، في ظل ثورة تؤمن بتحرر الإنسان، وتحاول بناء مجتمع حُر، بما أن عهد الاستعباد قد مضى، وبين واقع يحكمه نظام شمولي أوحد، يُعادي الجميع إلا نفسه، ليجد الراوي نفسه في مفترق طرق، يعاني من سجن كبير، يشمل المجتمع ككل، فالفساد يطول كل شيء، ومنظومة القيم التي تبثها الأغاني من خلال الإذاعة ليل نهار، أصبحت بالية، ورائحة عفنة صارت لا تطاق، هي رائحة هذا النظام، وما خلفه في النفوس. والمفارقة في بداية الرواية تكمن في ان اليوم الذي يُغادر فيه البطل السجن، هو نفسه يوم عودته إليه، وهذه الحركة الدائرية، هي التي تحكم البنية الكلية للرواية «قال الضابط: ما هو عنوانك؟ قلت: ليس لي عنوان» (ص 31). فالعودة إلى القسم هي عودة حتمية، ولحظة الخروج هي نفسها لحظة العودة، فلا يوجد خروج من الأصل. وقد وجد البطل أن لا شيء قد حدث منذ دخوله السجن، حتى خروجه وتواجده بين الآخرين الآن، فهم مثله في محبس كبير. وجاءت رواية «نجمة أغسطس» لتوضح الوضع الفعلي للجو المحيط بأكبر مشروع ثوري في الشرق الوسط، وهو بناء السد العالي، ووسط الأغاني والكتابات البالية، التي أوهمت الناس، وأغرقتهم في الأحلام أكثر وأكثر، يكشف صنع الله إبراهيم ما يدور في الحقيقة، والأوضاع المزرية والمخاطر التي يتعرض لها العمال المصريون، وسوء الأحوال، بخلاف العمال الروس مثلاً، فالصورة ليست وردية كما كان النظام يريدها للناس. بخلاف العمل الهام لجمال الغيطاني «الزيني بركات» والذي استلهم من التراث رواية عميقة عن نظام الحكم الشمولي، وما يفعله في النفوس، من تشويه لآدمية الإنسان، وتحويل الجميع إلى جواسيس، يخدمون النظام الحاكم.
إلا أن الملفت للنظر أن يتم طرح رواية حديثة نسبياً في عام 2010 تحت عنوان «فيوليت والبكباشي» وهي العمل الروائي الأول للكاتب عمرو حمودة، وقد تعرّضت لحركة يوليو بمزيد من النقد، وما يلفت الانتباه ان أحداث يوليو ما تزال ترمي بظلها حتى اليوم، ولو على سبيل عقد المقارنات، ومحاولة رؤية النتائج من خلال المقدمات، فالكاتب يرى أنه يكفي الكذب إلى هذا الحد، وأن نظام عبد الناصر عبارة عن دولة بوليسية وسجن كبير، رغم التبريرات الخائبة، وقد تم إقصاء من يحملون فكراً ورؤية مختلفة، كيوسف صديق وخالد محي الدين. فالثورة لم تثق في المثقفين، لأن مثقفيها من داخل الجيش فقط، لتكون النتيجة المنطقية والحتمية تاريخ آخر لا ينفصم عن يوليو 52 بل يكمل الحدث حتى نهايته في 5 حزيران/يونيو 1967. وما أشبه اليوم بالبارحة.
11ADA

الأدب المصري والوجه الآخر لانقلاب يوليو 1952

محمد عبد الرحيم

إشترك في قائمتنا البريدية