نواكشوط ـ «القدس العربي» ـ عبد الله مولود: التطير عادةٌ موغلةٌ في القِدَم، ضاربةٌ في أعماق التاريخ، ارتبطت ارتباطاً مباشراً بمخاوف الإنسان من المجهول، وتوجّسه من المفاجآت، وترقّبه لحلول المصائب والفواجع، والأحزان والمكاره، وتنزّل الأقدار التي يتمنّى المرءُ خلافها، ويرجو ضدّها، إنها عادة توقّع حصول الشرّ، أو ما يُعرف بالتشاؤم والتطيّر.
وإذا كان الكثيرون لا يولون أي اهتمام لمسميات الأشخاص والأمكنة ودلالات الأرقام، فإن ثمة من يربط، عبر قراءات غيبية غريبة، جميع تطورات حوادث حياته اليومية بدلالات أسماء الأشخاص الذين يقابلهم متفائلا بالحسن ومتطيرا متشائما بالخشن. ومن ذلك أن بعضهم إذا خرج من بيته يتفطن لأول شخص يقابله، فإن كان أبيض اللباس حسن الوجه تفاءل خيرا والعكس، ومنهم من يفسر الأرقام ويوزعها لأرقام شؤم وأرقام سعد.
وقد ظهرت علاقة الأرقام بالشر منذ زمن بعيد حيث ارتبط الرقم 13 بالشر قبل ألفي سنة على الأقل من خلال حادثة العشاء الأخير للسيد المسيح عليه السلام والذي حضره 13 تلميذا. ثم توالت الأحداث التاريخية المشؤومة التي يتصادف حدوثها مع تاريخ 13 من الشهر الميلادي. وهناك الرقم 4 المشؤوم في اليابان، وكذلك الرقم 666 الذي يرمز للشيطان، والرقم 7 المشؤوم في بعض دول آسيا، والرقم 11 الذي أدرج في القائمة بعد حادثة الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي في 11 أيلول/سبتمبر التي جرى ضمها لاغتيال الرئيس الأمريكي جون كنيدي في شهر 11 علم 1963. ومن المولعين بأسرار الأرقام من حولوا حروف أسماء الله إلى أرقام اعتمادا على قيم الحروف المتداولة منذ زمن بعيد، ففي هذا الحساب يحول اسم الله تعالى «وهاب» إلى الرقم 14 فيكون هذا الرقم دالا على الجمال، ويحول اسمه تعالى «جبار» إلى الرقم 206 فيكون هذا الرقم دالا على الجلال.
ومن الأشخاص من ينظر في رقم جوال أول متصل به فإن هو حمل أرقاما مشؤومة تطير وتشاءم وإن هو حمل أرقام بشارة وسعد تفاءل واستبشر.
ويرى المختصون اندراج التطير والتفاؤل بما أودع الله في طباع الناس وغرائزهم من الإعجاب بالأسماء الحسنة والألفاظ المحبوبة وهو نظير ما جعل في غرائزهم من الإعجاب بالمناظر الأنيقة، والرياض المنورة، والمياه الصافية، والألوان الحسنة، والروائح الطيبة، والمطاعم المستلذّة، وذلك أمر لا يمكن دفعه ولا يجد القلب عنه انصرافاً.
وكلمة التطيّر مأخوذة من الطِيرة بفتح الياء وتسكينها أحياناً، والمقصود به التشاؤم من الأشياء، واستعملت الطيرة عند العرب في الخير والشرّ جميعاً، ثم غلب استعمالهم لهذه اللفظة في الشرّ.
والأصل في لفظة «الطيرة» ما كان يفعله العرب قبل بزوغ فجر الإسلام من عادة زجر الطير، وحاصلها أن المشرك إذا أراد السفر بكّر إلى أوكار الطير فهيَّجها، فإن ذهبت عن يمينه تيامن وتفاءل واستبشر خيراً ثم مضى في سفره، وإن ذهبت عن شماله تشاءم، وردّه ذلك عن إمضاء أمره.
وإذا كانت هذه هي حقيقة التطيّر وصورته، فإن مما يدخل في بابه دخولاً أوليّاً عادة الاستقسام بالأزلام، التي اتخذت صوراً متقاربةً إلى حدٍ كبير، أبسطها أن العرب في السابق إذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحاً أو نحوها من المقاصد كان يأتي بسهام ويضعها في جِراب، ثم يكتب على بعضها: «أمرني ربي» وعلى بعضها «نهاني ربي» ويترك الباقي خالية من الكتابة، ثم يضع يده في الجِراب ويختار سهماً، فإذا خرج السهم الذي فيه الأمر أقدم على العمل، وإذا خرج النهي أمسك وأعاد، وإن خرج ما ليس عليه كتابة استقسم مرة أخرى، وبذلك تتّضح المقاربة الكبيرة بين فعل «زجر الطير» وبين عادة «الاستقسام بالأزلام».
وقد أدى ظهور وانغراس التطير والتشاؤم لظهور وظائف الشعوذة الاجتماعية بمختلف تجلياتها كالعرافين والمنجمين وضربة الرمل، وأصحاب الاستخارات والاستشارات الباطنية، وقراء الكف، ومستكفي الفنجان.
ويتربع العديد من هؤلاء الدجالين على امبراطوريات مالية كبرى اليوم استطاعوا بناءها مستغلين جهل العامة وولع الكثيرين بالكشف عن المغيبات.
لكن الغريب ما هو واقع في افريقيا من عناية كبيرة بالكشف عن المغيبات والتصارع مع الأقدار، فلغالبية رؤساء الدول الافريقية منجموهم وكهنتهم الذين يحمونهم من العزل والمرض ومن الخصوم والأعداء. فالعصي التي يحملها بعض الرؤساء والقلانس التي يتعمرها البعض كلها أدوات تحمل تمائم وأحرازا وتحاصين ترد الشر والمفاجآت الضارة.
من كل هذا يتضح أن الإنسان مهما أوتي من علم وثقافة، يظل محكوما في لا شعوره الباطني بصراع خفي مع أقدار حياته، لكن البعض يترك هذا الصراع داخليا ويبقى مستسلما للقدر، بينما يخوض البعض الآخر الصراع ضد الأقدار بوسائله ومعتقداته وتمائمه.
ويبقى السؤال المطروح هو: هل يستجيب القدر؟