يمكن القول ان الظاهرة الشعبية او «الشعبوية» التي يطلق الغربيون عليها «بوبيوليزم populism» اصبحت داء خطيرا يهدد النظام العالمي الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية. هذه الظاهرة التي تجسدت بصعود دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية ودفعت بالتيارات اليمينية المتطرفة في الدول الاوروبية إلى الواجهة السياسية هي نفسها التي ادت قبل ذلك إلى ما عانت منه امتنا العربية والإسلامية في السنوات الاخيرة من تصدع المجتمعات وفق خطوط التمايز الديني والمذهبي.
تتأسس هذه الظاهرة على اثارة المشاعر الجماهيرية باتجاه تغليب الذات على المصلحة الاجتماعية، وبذلك تتحول من شعور انساني عادي بالخصوصية والتميز الطبيعي عن الآخرين إلى ظاهرة اجتماعية ترى في الآخر عدوا او مناوئا او منافسا على اقل تقدير.
على الصعيدين العربي والإسلامي كان هناك امل لدى رواد النهضتين العربية والإسلامية بان يتعمق الشعور بالهوية الخاصة من اجل خدمة المصلحة العامة. فعلى الصعيد العربي طرحت المسألة القومية بهدف التحول إلى هوية جامعة للشعوب العربية لتجمع امرها من اجل مواجهة الاستعمار الغربي من جهة والتصدي للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين من جهة اخرى. وكذلك الامر بالنسبة للهوية الإسلامية التي صاحبت تنامي الصحوة الإسلامية. وبموازاة ذلك تصاعدت ظاهرة «الوعي الاسود» في جنوب افريقيا بهدف رص صف الجماهير على ارضية التصدي للنظام العنصري الجاثم على صدور تلك المنطقة. وتبلورت تلك الظاهرة ايضا لدى جيل السود الأمريكيين في الخمسينيات والستينيات لمواجهة العنصرية التي كانت تميز بين المواطنين على اساس اللون، باستضعاف السود وتهميشهم في الحياة العامة. هذه الظواهر تختلف عما شهدته دول اوروبية بصعود النازية المؤسسة على مقولة تفوق العرق الآري على من سواه، وكان اليهود من ضحايا تلك الظاهرة. وجميع هذه الظواهر تهدف لتحريك المشاعر العامة باتجاه اهداف سياسية واضحة. الفرق ان بعضها عادي وبعضها ينطوي على بعد عنصري. ونظرا للوعي العام الناجم عن معاناة الشعوب الغربية خلال النصف الاول من القرن الماضي والحربين العالميتين اللتين عانى الغربيون منهما، فقد مال الاتجاه العام منذ العام 1945 لرفض العنصرية وترويج ثقافة التحمل وتأصيل منظومة حقوق الانسان، وصدرت بذلك كافة القوانين والمواثيق والعهود الدولية التي وضعها رواد العمل الانساني المشترك ضمن غطاء الامم المتحدة.
واذا كانت ألمانيا النازية التجسيد العملي لواحدة من ابشع الظواهر العنصرية، وتوازى معها انظمة عنصرية في جنوب افريقيا وروديسيا (زيمبابوي) والولايات المتحدة، فان من المنطقي الادعاء بان الولايات المتحدة أطلقت ظاهرة العنصرية التي تتصاعد باضطراد منذ صعود الرئيس الحالي إلى منصبه. ويمكن الزعم بان اية محاولة للتفرد بالقرارات والمواقف والانتماء تؤسس للظاهرة العنصرية مهما كانت تبريرات القائمين بذلك. وقد ادرك زعماء الدول الاوربية الجنوح الأمريكي نحو ما اسموه «يونيلاتيراليزم» Unilateralism اي الانكماش على الذات ورفض العمل المشترك مع الآخرين. فالعمل المشترك ينطوي على قناعة بالتساوي مع الآخر في الإنسانية وكذلك الحقوق والواجبات، بالاضافة للرغبة في الترويج لعالم متجانس يشترك افراده في خيراته بقدر من المساواة، وبدون تمييز على اسس اللون او العرق او الثقافة. كما يقوم على احترام التعددية واعتبارها عامل اثراء للجنس البشري، وليس اساسا للتمايز والاستعلاء. ولتوضيح جوهر الفكرة يمكن استعراض عدد من الحقائق ذات الصلة:
الاولى: ان الحكومات التقليدية الاوروبية حتى وقت قريب كان تؤمن بمستلزمات العمل الدولي المشترك، فتدعم الامم المتحدة راغبة، وتروج مقولات الديمقراطية وحقوق الانسان كقواسم مشتركة بين البشر وحقوق طبيعية لهم، وترفض التطرف الذي تمثله المجموعات اليمينية المتطرفة. وكانت تدعو الولايات المتحدة للتخلي عن نزعة التفرد والتخلي عن مقولة «يونيلاتيراليزم»، وترى في ذلك تقويضا للعمل المشترك سواء على صعيد الامم المتحدة ام المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية والاتفاقات الدولية حول البيئة والمحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الانسان، ام المنظومة الغربية وما يتفرع عنها من اتفاقات تجارية وعسكرية خصوصا حلف الناتو.
الثانية: ان الفرحة التي عمت الغرب بسقوط الاتحاد السوفياتي دفعته في البداية لترويج مقولات التعايش العالمي المشترك ضمن المنظومات المذكورة، وان الجهود المستنزفة خلال الحرب الباردة يجب ان توجه لتشكيل عالم افضل تسوده الديمقراطية وحقوق الانسان وتحكمه اطر التعاون الدولي المشترك. مع ذلك كانت اوروبا تخشى من قيام نظام دولي مؤسس على القطب الواحد، فكانت تراقب التصرفات الأمريكية وسعت لمسايرة واشنطن لمنعها من التوجه نحو التفرد. وكات من نتائج الجهود الاوروبية تراجع مجموعات التطرف اليمينية وتهميشها في صناديق الاقتراع، فلم تكن هناك خشية مباشرة من تهديد المنظومة الغربية التي كانت تتسم بشيء من الاعتدال بعد تجربة الحروب السابقة.
الثالثة: ان أمريكا، حتى قبل صعود ترامب، كانت لها نزعات مختلفة. وتعمقت تلك النزعات بعد حوادث 11 سبتمبر الإرهابية، فسرعان ما اتضح انها تبتعد تدريجيا عن العمل المشترك، وتسعى لخلق عالم مؤسس على قطب واحد يتصرف كما يشاء. في البداية كان هناك الرفض الأمريكي لتوقيع بروتوكولات روما التي تنظم عمل المحكمة الجنائية الدولية. هذا الامر اوحى للعالم ان أمريكا ترفض ان تساوى مع بقية الدول من حيث المسؤولية والالتزام بالقانون الدولي. وبدأت الضغوط على الامم المتحدة تارة بخفض المساهمة المالية الأمريكية للمنظمة الدولية، واخرى برفض توقيع الاتفاقات العديدة، وثالثة بالانسحاب من المعاهدات التي سبق لأمريكا الانتماء اليها. هذه النزعة تأكدت بعد صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية. وخلال عام واحد سحب بلاده من منظمة اليونيسكو بدعوى انها معادية لـ «اسرائيل»، في الأول من حزيران/يونيو 2017، أعلن الرئيس الأمريكي انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة باريس للمناخ التي وقعتها 195 دولة عام 2015، ونيتها السعي إلى التوصل إلى «اتفاق عالمي جديد» بشأن التغير المناخي. وفي 12 اكتوبر 2017 انسحبت من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) متهمة إياها بأنها «معادية لإسرائيل» على أن تبقى في المنظمة بصفة مراقب إلى أن يدخل انسحابها حيز التنفيذ نهاية عام 2018. وفي يناير 2018 أخرج ترامب واشنطن من «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي» التي وقعتها 11 دولة عام 2015 من منطقة آسيا والمحيط الهادي باستثناء الصين.
الرابعة: ان صعود ترامب وفر دفعة قوية للمجموعات اليمينية في اوروبا واصبحت الاحزاب التقليدية تخشى من ذلك كثيرا. فقد اصبح حزب «الحرية» شريكا في الائتلاف الحكومي النمساوي. وفي فرنسا قفزت حظوظ اليمين المتطرف ممثلا بـ «حزب الجبهة الوطنية» الذي تقوده جان ماري لوبان الذي فاز بعدد من المقاعد. وفي المانيا حقق حزب «البديل» 13 بالمائة من الاصوات في انتخابات العام الماضي.وصعد اليمين المتطرف في المجر وبولندا وايطاليا لتدخل اوروبا بذلك مرحلة تنذر بعد الاستقرار، وتشبه إلى حد كبير اوضاعها قبل الحرب العالمية الثانية. القادة الاوروبيون التقليديون يعلمون ان «الظاهرة الشعبوية» في بلدانهم تعمقت بفوز دونالد ترامب الذي لم يخف طرح اجندة عمل خطيرة ضد المهاجرين والمسلمين والعمل الدولي المشترك. وقد سبق له ان دعا لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الاوروبي.
الخامسة: ان «الظاهرة الشعبوية» تقوم على اساس اثارة القضايا الخلافية وتحويلها إلى مانفستو سياسية، ومن ذلك رفض استقبال المهاجرين، ومعاداة الإسلام، وترويج روح الاستعلاء والتباين، واعتبار الآخر المختلف «عدوا». هذه الظاهرة وصلت هي الاخرى إلى العالمين العربي والإسلامي، ولكن بنسخة اخرى ذات منطلقات مذهبية ادت إلى حمامات من الدم ما تزال تسيل حتى الآن. وثمة ادراك للدور الاسرائيلي في ما يحصل، سواء بطرح اجندة العمل للرئيس الأمريكي ام التحالف مع حكومات عربية تماهت مع «الظاهرة الشعبوية» في نسختها العربية كأسلوب آخر من التصدي للظاهرة الثورية الساعية للتغيير السياسي وتحرير فلسطين والحد من الهيمنة الغربية. انه انقلاب حقيقي على التراث السياسي الانساني في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
٭ كاتب بحريني
د. سعيد الشهابي