الديمقراطية الجزائرية بين مطبخ السياسة ومطعم السلطة 

حجم الخط
1

لا تنفك ظاهرة السلطة وغرائبية بناها وسيرورتها تطرح الكثير من الأسئلة على العقل السياسي الوطني والأكاديمي حتى، في ظل هذه القدرة الرهيبة على الحيلولة دون أن يصل وعي وقوة التغيير المتراكمين في المجتمع الجزائري، بلا انفعال أو تفعيل، إلى النواة الصلبة للنظام فيفجرها ويفرج بذلك عن إرادة الأمة المرتهنة في حقها السياسي كي تستكمل مسار الانعتاق من الوصايا التي مارسها عليها الاستعمار وسلطة الانقلابات التي ورثت عنه البلاد والعباد عشية الاستقلال ذات مساء من صيف 1962.
وفي هذا السياق تحديدا دعا مؤخرا الأمين العام السابق لحزب جبهة القوى الاشتراكية كريم طابو، الرئيس الحالي لحزب الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي، الذي ترفض السلطة اعتماده مذ عقد مؤتمره التأسيسي، الفاعلين السياسيين في الجزائر إلى تجديد الفكر السياسي بما يتيح لحظيرة السياسة في الجزائر أن تفرز نتاجا سياسيا جديدا ونموذجيا يتسق مع طبيعة الراهن ويستوعب التجارب الماضية كي يقود إلى التغيير على كل الصعد، ويعجل بالتالي بتجاوز ثوابت الخطأ التاريخي القديم الذي بُني على قواعده الهشة صرحُ السلطة في الجزائر كثمرة مرة لخطيئة استيلاء جماعة وجدة على الحكم بالقوة استكمالا لمشروع عسكرة الحكم الذي سبق الاستقلال الوطني بسنوات، معتبرا أن جُماع المشاريع والأطاريح التي أتت بها التعددية بعد سنوات الوأد التي تلت انقلاب 1992 أضحت لا تفي بالغرض، وأضأل بكثير من أن تقدم بدائل تنسف المشروع السياسي الأحادي الذي استقامت على عوجه السلطة ولا تزال إلى اليوم سيدة على رقاب الجزائريين رغما عنهم.
حديث كريم طابو عن تجديد الفكر واستحضار نخب سياسية جديدة، يؤكد هزيمة المثقف السياسي الجزائري الجديد أمام عتو الفكر الكلاسيكي للحركة الوطنية في تدبيرها للشأن السياسي الجزائري، وقرنها للعسكري بالسياسي ثم تحولها من الأحادية المطلقة إلى التعددية الأحادية، فكر استعسر حل شفرته وفق كل نظريات التحليل التي تطرحها العلوم السياسية، وهذا بسبب البناء غير العلمي والمارق عن المنطق لمنظومة الحكم في الجزائر، وهذا ما يفسر لربما عدم قدرة الجامعي والمثقف على مجاراة السياسي الكلاسيكي خطابا وممارسة بل وعدم استطاعته ضبط تفكيره وكشف استراتيجيته في الاستبقاء على البنية القديمة في الحكم رغم تبدل عقيدته وانتحاء شروط انبثاقه من وطنية ثورية، واشتراكية اجتماعية، مثلما نصت عليه مواثيق التأسيس الأولى لمشروع الدولة المستقلة.
إن السياسة في الجزائر لم تخرج عن إطار بيئة نشأتها الأولى، المنبثقة من وعي ريفي حيث اللا انتظام مؤسساتي ولا الرؤى الأخلاقية ذات الارتباط بتقاليد وثقافة الدولة بل ظلت على ذات الخبث حرب العصابات الذي نُقل منهجه من النزاع العسكري إلى ساحة الصراع السياسي، بما يتضمنه أسلوبه من اللا محظور واللا أخلاقي واللا معلوم الجهة، وهو ما اتضح بجلاء من خلال أسلوب إدارة الحياة السياسية فيما بعد من تلك الاختراقات التي مورست على التشكيلات السياسية لتفجيرها من الداخل، والتمرد على المؤسسات وسيدتها لجعلها تعطل كل مجرى قانوني وعملي صحيح وفق ما تمليه نظرية الدولة ومنطقها السليم.
لكن هل يمكن فعلا التجديد في الفكر السياسي ما قد يسفر عن ميلاد نخب جديدة قاطعة مع الماضي ببعديه البعيد والقريب في ظل ثنائية الإطباق على أداة إدارة المشهد السياسي من قبل السلطة القديمة المستديمة، بفصل القواعد الجماهيرية عن نخب السياسة، ومنع هاته الأخيرة من النمو الطبيعي وفق آليات النشاط السياسي السليم والحر؟
هو ذا السؤال الذي ينبغي طرحه لفهم حالة التقادم والتهالك السريع لكل مرحلة يظن أنها جديدة ومجددة لعمر السياسة في الجزائر، إذ لا يمكن التجديد إلا على قواعد جديدة تحل محل اللحظة الثورية الأولى التي أنجبت هذا الحكم ذا الطبيعة والشكل الشاذين في تاريخ السياسة ونظم الحكم في العالم.
ومن مأساة مسارات الوعي السياسي الموؤود أن الخط الوطني بوصفه نهجا سياسيا أريد له أن يتأسس كنموذج أيديولوجي وتيار سياسي بعد تبني التعددية والإقرار من خلالها بخطيئة الأحادية وما رافقها من ظلم وإخفاقات – من مأساته – أن يظل الجهاز الأحادي منطلق ومنتهى كل مشروع تحول في البلد باعتباره مرجعية للوطنية، فسيط في مواجهة تامة لمنطق التاريخ الذي يؤكد أن الجهاز الاتحادي المؤقت (جبهة التحرير الوطني) الذي أريد له أنه يتحول إلى قطب أيديولوجي وسياسي خاص، كان مجرد خيار إجرائي وآلية عملية لتفعيل وعي وطني بنضاله الذي انبجس سيله مذ انبلج فجر القرن الماضي، أمر جعل السلطة الفعلية المرتكزة خطابيا على هذا التيار، تستحوذ على مطبخ السياسة في الجزائر، في حين تكتفي المعارضة بأجيالها وجموع تشكيلاتها بالمطعم، تتغذى بالوجبة التي يفرضها النظام وسلطته!
بمعنى آخر، طالما أن التفكيك الشامل والكامل لمنظومة الحكم فكرا وأداة لم تتم تاريخا ومسارا، بما يمكن من تجاوز الخطاب المرحلي الأول الذي على أقراع قلقه نشأت الدولة المستقلة التي تأبى أن تتنحى وفق شروط التاريخ عينه، فلا يمكن الحديث عن إمكانية التجديد، فبقاء جبهة التجرير الوطني الجهاز الموحد المؤقت باعتباره رداء لمن يحكمون خلفه عبر مختلف عقود الاستقلال، ليس مما يساعد على إحداث القطيعة وتجفيف منابع السلطة في إعادة إنتاج نفسها.
وعليه تحتاج نخب المعارضة إلى أدوات أدق من الحق الانتخابي المسروق زروا وتزويرا كي تطيح بسلطة ليست بالطبيعة السياسية منشأ ومسلكا، تجعل من نفسها فوق التاريخ، حين تستدعي الكل إلى حظيرتها حتى الديمقراطية لم تسلم مفهوما وممارسة من لا منطق هاته السلطة، حين تقزم حوارها وممارستها داخل الغرف النيابية وهمية المعدة والمفصلة على مقاساتها.
الحقيقة إن المدى الزمني الذي استشرفه كريم طابو كي تتراسم أول خيوط التغيير في سماء السياسة في الجزائر حين تحدث عن عشر سنوات، يشرط قبلها أن تتخلص هاته النخب من مثالبها الثلاثة التي احتبست حركتها، ونسفت مصداقيتها داخل القواعد الجماهيرية، إذ أن حصرها في الجهوية المقيتة التي رافقت الوعي الغنائمي للسياسة الجزائرية، شخصنة الفعل السياسي، عبر الاستصنام الزعماتي، وأخيرا السعي الدائم للتواجد في المؤسسات الرسمية دونما اكتراث بضرورة التواجد في المجتمع، هو مدى زمني موضوعي شريطة أن تقلع هاته النخب السياسية عنها أسمال العهد السابق، وتخلص من وهم التغيير عبر مسارات انتخابية وهذا نهج، وإن كان ممكن اتباعه والنجاح من خلاله، لكنه يظل صعبا ويحتاج إلى تبدل جيلي على كل المستويات العمرية، الفكرية وإرادة تخليص البلد من صدأ سياسي يسمم كيانه.
كاتب صحافي جزائري

الديمقراطية الجزائرية بين مطبخ السياسة ومطعم السلطة 

بشير عمري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خالد محمد الجزائر:

    حديث كريم طابو عن تجديد الفكر واستحضار نخب سياسية جديدة، يؤكد هزيمة المثقف السياسي الجزائري الجديد أمام عتو الفكر الكلاسيكي للحركة الوطنية في تدبيرها للشأن السياسي الجزائري، وقرنها للعسكري بالسياسي ثم تحولها من الأحادية المطلقة إلى التعددية الأحادية……. واستغلال الين لأغراض سياسيةن فجبهة التحرير الوطني هي من أهم وابرز الأمثلة النموذجية لاستغلال الدين لأغراض سياية، ولنا مثالين معاصرين لها في هذه المماسة ونتائجها الكارثية على شعبي هذين المثالين النموذجين الأول قبلها وهو النموذج جمهورية باكستان بقيادة محمد علي نجاح والثاني بعدها هو نموذج جمهورية الملالي بإيران بقيادة

إشترك في قائمتنا البريدية