إغلاق مساجد أوروبا ليس مجرد سيناريو تشاؤمي

برغم كثرة الشواهد إلا أن كثيرين عندنا يرفضون قبول فكرة أن الغرب عموماً والقارة الأوروبية بشكل خاص يعيشون فترة تغيير حقيقي وتوجه نحو شمولية شبيهة بتلك التي تنتقد بشدة حالياً حين تصدر عن بلدان العالم الثالث. حتى مع وجود شخصيات مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلا أن حالة الإنكار ما تزال تسيطر على أجواء النقاش العامة التي لا ترى في الرئيس الأمريكي نتاجاً لواقع اجتماعي وسياسي أفرزه ودفع به إلى الواجهة، بقدر ما تراه حالة شاذة وغريبة على المجتمع الليبرالي الحديث الذي ما يلبث أن يتجاوزها لتعود الولايات المتحدة من جديد أرضاً للتنوع العرقي والثقافي لا مكاناً مخصصاً للبيض المسيحيين كما تريد الزمرة الترامبية.
يعتبر المنكرون أن لوجهة نظرهم ما يدعمها فهم يرون أن الديمقراطية وحقوق الإنسان مترسخة بقوة لدى البلدان الغربية وأنه لن يكون من السهل تجاوز كل هذا التراث الذي تفتخر به الإنسانية والمتمثل في تحقيق قيم التعايش وقبول الآخر والعودة من جديد لمنطق القرون الوسطى وثنائية (نحن وهم) أو المجموعة الطيبة التي تقاتل مجموعات الأشرار أو الكفار حسب ما كانت تردد دعاية الحروب الصليبية.
تفترض وجهة النظر هذه أن المجتمعات الغربية قد وصلت مرحلة الثبات السياسي والفلسفي وأنها ستستمر كذلك إلى ما شاء الله وأن أي تغيير يحدث فإنه لن يكون إلا في إطار الثوابت التي تم الوصول إليها في مرحلة التشريعات التي تلت الحروب العالمية، وسواء في هذا ما كان على المستوى الداخلي أو على مستوى العلاقات الخارجية.
فكرة الثبات أو الاستقرار النهائي هذه قد سبق إليها المنظر الأمريكي فرانسيس فوكوياما حين أطلق في بداية التسعينيات فرضيته الشهيرة عن «نهاية التاريخ» ولكن التغييرات المتسارعة التي مرت بالعالم منذ نشر هذا الكتاب وحتى الآن قد أثبتت بوضوح فشل هذه الأطروحة، كما أثبتت أن الأرض ما تزال حبلى بالتغيير الذي قد يكون جذرياً وقوياً لدرجة تهديد بقاء القوى الأقوى في عالم اليوم في موقعها الحالي.
يكفي أن نذكّر هنا ببعض التغييرات التي شهدها العالم والتي نرى أنها تؤثر بشكل كبير على تسريع الموجة اليمينية في البلدان الغربية. لدينا أول ظاهرة دونالد ترامب وهي مما يستحق وقفات طويلة وتأملاً فالرجل قد أدهش العالم مرتين، مرة من خلال فوزه برئاسة الدولة الأكبر في هذا العالم، ومرة أخرى بجديته في اتخاذ الإجراءات الهادفة لغلق الولايات المتحدة والتضييق على دخول المسلمين خاصة.
في أوروبا لدينا مؤسسة الاتحاد الأوروبي التي عاشت فترة تألق وتصاعد منذ إنشائها، لكنها تبدو اليوم مترنحة وضعيفة حتى وصل الأمر ببعض القيادات السياسية الأوروبية للتشكيك بها والسخرية منها، بل تعدى الأمر ذلك لخروج دولة مهمة مثل بريطانيا من ذلك الاتحاد بشكل كامل بعدما كانت في الأصل «شبه عضو» وهي تحتفظ بعملتها وتغلق حدودها متخذة ما تراه مناسباً من إجراءات الحماية بغض النظر عن موافقته لما يصدر عن الاتحاد.
الاتحاد الأوروبي الذي ظل يرفض قبول تركيا عضوا فيه، وذلك حفاظاً على التجانس في داخله، لم يتردد في قبول دول المشرق الأوروبي الأخرى وهي دول تبدو متقاربة ثقافياً مع بقية الدول الأوروبية، لكنها في الواقع مختلفة عنها بشكل كلي خاصة فيما يتعلق بتجربة الانفتاح والشفافية مع شعبها في الداخل ناهيك من مسألة قبول مهاجرين أو مغتربين. وقد ساهم دخول هذه الدول اليمينية بطبعها والذي تزامن مع بروز اليمين في دول مثل فرنسا وإيطاليا والنمسا في تكوين شبكة إعاقة لمشاريع التطوير الأوروبية التي كانت تود التوجه نحو مزيد من الانفتاح وصولاً إلى تشارك حقيقي في التشريعات وهو الأمر الذي تراجع اليوم ليصبح الطموح هو محاولة الحفاظ على هذا الاتحاد بأي شكل كان.
متغير آخر مهم هو ذلك التدفق الجديد للاجئين والذي لم تشهد القارة له مثيلاً والذي أعاد بدوره طرح أسئلة الهوية الأوروبية وضرورة الحفاظ عليها في مواجهة القادمين الجدد والذين تصادف أن تكون غالبيتهم من المسلمين. حسب المنطق اليميني فإنه إذا كانت القارة الأوربية تشهد بالفعل نمواً في أعداد المسلمين فإن إضافة ملايين أخرى منهم سوف يسرّع عملية أسلمة أوروبا التي يرى أولئك أن واجبهم القومي والديني يحتم عليهم منعها بأي ثمن. بالنسبة لكثير من القيادات المتطرفة التي بدأت تأخذ مواقع متقدمة على الساحة السياسية الأوروبية فإن المعركة قد بدأت بالفعل وأن ساحتها قد تكون خارجية منعاً لقدوم أي لاجئين جدد مهما كانت ظروفهم أو مبرراتهم، أو قد تكون داخلية بابتكار إجراءات قادرة على تذكير المسلمين الأوروبيين بأنهم لن يكونوا أبداً أوروبيين أصيلين.
من المتغيرات كذلك ظهور الجمهورية التركية بشكلها الحديث الذي جعلها تفرض نفسها على الساحة الدولية كقوة لا يستهان بها. ما يقلق الدول الغربية ليس مجرد البروز التركي، فقد سبق له أن دعم تركيا الأتاتوركية ومدح قائدها وسياساتها، ولكن المقلق هو أن البروز هذه المرة مرتبط بإحياء التوجه نحو الإسلام على حساب العلمانية ونحو التراث العثماني على حساب القيم الأوروبية. أما الرئيس أردوغان فهو لا ينسى أن يذكر شعبه والعالم في كل مناسبة بانحداره من تاريخ إسلامي طويل وأن تركيا لا يمكن فصلها عن هويتها الإسلامية التي تشكل أهم مكونات ثقافتها.
لم تكن الدولة العثمانية سوى كابوس مرير بالنسبة لأوروبا، ورغم أنها كانت قد فقدت بالفعل الكثير من قوتها قبل وقت طويل من سقوطها الرسمي إلا أن المنافسين الغربيين لم يتنفسوا الصعداء إلا بعد تنحية آخر قياداتها وإلغاء نظام الخلافة الذي طالما وحد الشعوب والأعراق الإسلامية. إن مجرد استدعاء تلك الحقبة التاريخية يقابل في أوساط كثير من السياسيين الأوروبيين بالعداء الذي ينعكس في علاقتهم بالدولة التركية وبرئيسها خارجياً وفي التذكير بشكل مقابل بمسيحية أوروبا على الصعيد الداخلي.
على الصعيد الاقتصادي فشلت المدارس النيوليبرالية التي أنتجتها الرأسمالية وأدت دوامة الربا على المستويات الوطنية والعالمية لتزايد معدلات الدين والبطالة والفقر على الصعيد الدولي، لكن السياسيين الغربيين وعوضاً عن مناقشة أساس المشكلة قاموا بالقفز على كل ذلك متهمين «الغرباء» بالتسبب في الأزمات المالية وبأنهم أخذوا أماكنهم ووظائفهم.
اليوم، وبالتزامن مع إجراءات الحد من انتشار المساجد بزعم عدم اتساقها مع الهوية القومية الأوروبية وفي ظل استحداث قوانين جديدة للتضييق على المساجد ومراقبتها، بالتزامن مع كل ذلك تذهب بعض الدول الأوروبية إلى ما هو أبعد متخذة خطوة غلق عدد من المساجد تحت ذرائع لا تبدو مقنعة إلا لأصحاب التوجهات اليمينية.
هكذا لم يعد إغلاق المساجد وحظر العبادة مجرد سيناريو تشاؤمي من وحي الخيال وإنما إجراء بدأ تنفيذه بالفعل على يد أولئك الشعبويين الذين وجدوا في هذه اللحظة التاريخية فرصة لاختطاف الرأي العام عبر سيطرة غير مسبوقة على السياسة ووسائل الإعلام.
لا نغفل هنا أن هناك من الأوروبيين من يتصدى بقوة لهذه التوجهات، وذلك ليس فقط بسبب التعاطف مع المواطنين المسلمين أو لرغبتهم في الحفاظ على السلم الأهلي أو الاجتماعي، ولكن، وبالدرجة الأولى، لعلمهم أن نار الفاشية لا تبقي ولا تذر وما الحروب العالمية عنا ببعيدة.
كاتب سوداني

إغلاق مساجد أوروبا ليس مجرد سيناريو تشاؤمي

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نضال اسماعيل:

    الحرب الدينية باقية بقاء الليل والنهار ،انه الصراع الابدي بين الخير والشر بين النور والظلام انه الصراع بين الحق والباطل انه الصراع بين التوحيد والشرك.

إشترك في قائمتنا البريدية