بطولة عهد التميمي تؤكد أن الخنوع ليس حلا

هل من الممكن أن يكون بزوغ نجم الصبية «عهد التميمي» إيذانا بتغير أحوال «القارة العربية» ودخولها مرحلة جديدة؛ تفك فيها الارتباط بالمشروع الصهيوني، الذي هو قبلة الملوك والقادة العرب، وبوصلة سياساتهم العامة والخاصة.. وذلك قائم منذ ما قبل مسيرة العودة، التي بدأت في ذكرى مرور سبعين عاما على النكبة وسابق على قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة.
وظاهرة «عهد التميمي» جاءت كاشفة لركام التزييف لوقائع التاريخ وخلط أوراقه، وتماهي الغالبية العظمى من الملوك والحكام العرب مع المشروع الصهيوني والانخراط فيه. وعلى مدى أكثر من أربعة عقود تحول العدو إلى صديق وصار الأخ والشقيق عدوا، وجاءت هذه الأيقونة الفلسطينية فتجاوزت بتأثيرها النطاقين العربي والإسلامي إلى كل العالم، حتى اخترقت جدران العنصرية السميكة التي جمعت اليهود على هدف الاستيطان والعنصرية، وهذه واحدة منهم هي المحامية «جابي لاسكي»، التي صرحت بأن سجن موكلتها «عهد»، ثمانية أشهر لم يحطم معنوياتها. وفي مقالها بصحيفة «هآرتس» كتبت؛ كان الحكم عليها بالسجن نتيجة لجرأتها وتصديها لاقتحام منزلها من قِبَل الجنود الصهاينة. وقالت «بعد أن شَرُفت بتمثيل عهد التميمي أمام المحكمة العسكرية، أصبح من الواضح أنه لا صلة بين الصفعة الموجهة منها للجندي الصهيوني والعقوبة التي وقعت عليها. فالحبس لثمانية أشهر واعتقالها الليلي، الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة، كان عملا لتحطيم معنويات هذه الفتاة الصغيرة البالغة من العمر 16 عاماً».
وأشارت المحامية (الإسرائيلية) إلى استمرار محاولات تحطيم معنويات «عهد» بعد القبض عليها، والتهديد باعتقال أقاربها، ومنهم أطفال، فوقفت الفتاة الشجاعة، ولم تستسلم للحظة. ولم تستطع السلطات منع تحولها لبطلة عالمية؛ تلقت دعما من كل مكان. وأضافت «وكل من اعتقد أنه سيحطم معنوياتها؛ بالعنف والتهديد والسجن، فوجئ بأنها أقوى، وهكذا تمكنت من تعرية جرائم وموبقات الاحتلال.
واستعدت «عهد» فور إطلاق سراحها لزيارة قرية «خان الأحمر» البدوية، التي تنتظر الهدم. ولفتت بتضامنها مع أهل القرية النظر إلى التهجير القسري لهم، الذي يُقدم مثالا صارخا على تعنت سلطات الاحتلال والاستيطان لمنع التواصل الجغرافي بين أبناء الضفة الغربية، وتضيف المحامية: «إن ما حدث مع «عهد» قربنا من رؤية بشاعة الفصل العنصري بين النهر والبحر»، وكما يقال هذه «شهادة شاهد من أهلها»، وتقول: درس تعلمناه من «عهد»؛ هو أن الطائرات والغواصات، واعتقال الصبية والصبايا القُصَّر، وطرد العائلات؛ كل ذلك لم يثن الملايين عن طلب الاستقلال والحرية والحياة الكريمة، وتلك قيمة كبرى بما قامت به «عهد»؛ رغم المناخ الملبد بالتمييز والعنصرية والاستيطان، وقساوة الاحتلال.
هذا الجانب المضيء، الذي عبرت عنه هذه البطلة؛ ترك صداه وتأثيره على الرأي العام العالمي؛ وكانت هناك صفحات أخرى سوداء؛ جسدتها «صفقة القرن»، وتداعيات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، قانون القومية العنصري، الذي قصر المواطنة على معتنقي اليهودية، ووضع العرب؛ مسلمين ومسيحيين في المستويات الأدنى من الانتماء.
واللافت هو تعمد التعتيم على ظاهرة «عهد» من السلطات الرسمية المصرية، وكان ذلك واضحا خلال المؤتمر السادس لـ«شباب البرنامج الرئاسي»، الذي لم يشر إليها، ولم تنجح مناوراته في حجب هذه الظاهرة العملاقة لصبية صغيرة؛ «لها من اسمها نصيب»، وكأن المؤتمر يهرب من شبح «عهد»، وتجنب التطرق لرد الفعل على خروجها من السجن وهي أكثر إصرارا وصلابة.
وما دار في المؤتمر كان خلطة من «كوميديا» الفنان الراحل يونس شلبي، ومسابقات الكلمات المتقاطعة، فلا جمل مفيدة، من فعل وفاعل ومفعول به، ولا عبارات ذات معنى من مبتدأ وخبر؛ يبدأ الحديث عن الدين فتجده كلاما عن الحرب.. وانتهى الكلام: «يعني أمة (القصد مصر) لما يكون فكرها مبنيا على أن الحرب استثناء ولاَّ أصل، والحرب استثناء مش كده؟»، وبدا أنه سؤال هل الحرب استثناء أم أصل؟!.
والقول: «معقول.. معقول فيه فهم خطاب ديني كده، فانتو خايفين من اصلاح الخطاب الديني ليضيع الدين، هو انتو اللي فيه ده فيه أكتر من كده؟». وبدأ الوعظ، وهو في هذه الأيام مهنة من لا مهنة له وقيل: «متصدقوش إن ممكن يكون الخالق العظيم منزل اديان تهد الدنيا»، متسائلَا: «انتو عايزين تعملو إصلاح لخطاب ديني ولا خايفين لنضَيَّع الدين؟». وتابع: «انتو عاوزين تتكلمو عن قيم أخلاقية؛ طَبْ انتو مستعدين تقبلو في السينما والتلفزيون والمسرح سلوكيات لا تليق وبعدين تقولوا ده إبداع وحرية إبداع؛ يعني ده خيط رفيع.. عايزين تصلحوها ولا مش عاوزين»؛ كلام متداخل وغير مفهوم عن الخطاب الديني والحرب والقيم الأخلاقية وما يعرض في السينما والتليفزيون والمسرح ورقصة «الكيكي»: «يقولك بنعمل كيكي.. طيب يا سيدي خلاص أعمل كيكي، وتم توجيه الحديث إلى وزير البترول طارق الملا: «زود البنزين (وقود السيارات) متقلقش (أي لا تقلق)».
وفي رأينا أن الكلام غير الواضح عن الحرب والسلام لا يعني أباطرة المال ولصوص الأراضي ومضاربي الإسكان والعقارات و«أغنياء الكويز».. ولا المدان في قضايا قتل وفساد، ولا الذين خرجوا بعفو رئاسي؛ لا يُسقط الإدانة.. ومن المؤكد أنه أسقط الأهلية والجدارة؛ المانعة لممارسة أي نشاط سياسي ومالي وتجاري أو عمل أهلي، ومع ذلك يُدعَوْن لحضور الاجتماعات والمؤتمرات الرسمية، والباب الذهبي لدخول هؤلاء المجرمين بنص أحكام القضاء، وانضمامهم لجماعات الحكم والمال والتجارة والنشاط الأهلي هو بسبب الثراء وقدرة التبرع لـ«صندوق تحيا مصر»، ولبناء «العاصمة الجديدة»!!.
وكان جيلنا قريبا من العسكريين العظام فيما قبل «صهينة» السياسة المصرية، وقرأنا مؤلفاتهم عن ماهية الحرب والسلام والمقاومة والصمود والردع والتحرير، والحروب النفسية والاقتصادية، وتعلمنا منهم أن الحرب بالمعنى العسكري في أدبيات الغرب التي شَبَّت عليها الإدارة المصرية الحالية، ومن وجهة النظر الشرقية، والأخرى غير المنحازة؛ تتفق كلها على أنها استمرار للسياسة بوسائل أخرى، وهي عمل عنيف لإكراه الخصم على الخضوع والإذعان. وأداة من أدوات السياسة؛ غايتها حماية مصالح المُحارِب وتعزيز مراكز نفوذه. وهي من وجهة النظر الغربية ظاهرة اجتماعية معقدة ومتعددة الجوانب؛ تتطلب حشدا دائما للموارد البشرية والمادية والعلمية والتكنولوجية والمعنوية. أما النمط الشرقي اعتبرها وجها من أوجه الصراع الاجتماعي (الطبقي)، وعن حروب التحرير فأساسها المقاومة والحشد ومعارك الكر والفر وحروب العصابات والاستنزاف.
والحديث المرسل عن السلام هو الأصل والحرب استثناء فيه إغماض عين عما يجري في «القارة العربية»، المشتعلة والمتفجرة. واستمرار إهدار كرامة المواطن يقضي على أي اهتمام بالحرب أو السلام، ومع ذلك نقول أن السلام لا يعني قبول التبعية والعمل لحساب الحركة الصهيونية ولصالحها؛ كما هو الحال الآن. وما قامت به «عهد التميمي» نوع من المقاومة الواجبة التي يقوم بها الفرد أو المجموع، وتبدأ بالرفض، وتتعزز بالصلابة في الموقف، والقوة في العزيمة، والسلامة في البيئة الحاضنة.

٭ كاتب من مصر

بطولة عهد التميمي تؤكد أن الخنوع ليس حلا

محمد عبد الحكم دياب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية