إن المتأمل في مسار النقد الأدبي العربي القديم، يتضح له أن هناك نتفا من نقد النقد بأشكال مختلفة وغير واعية بالفرق الكامن بينهما، وبمفاهيم مختلفة كمفهوم الانتقاد، كما رأينا، الذي أضحى مفهوما متداولا في الثقافة العربية القديمة، خاصة في صفوف النقاد، الذين تناولوا تاريخ نقد النقد، ويعزى ظهوره في بادئ الأمر إلى القرن الرابع للهجرة، حين سئل أبو حيان التوحيدي عن بعض القضايا المتصلة بمراتب النثر والشعر، ومواطن الاختلاف والائتلاف بينهما ووظيفة كل منهما، فرّ د على ذلك بقوله: «إن الكلام على الكلام صعب. وحين سئل لما؟ قال: لأن الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور الأمور وشكولها التي تنقسم بين المعقول وما يكون بالحس ممكنا، وفضاء هذا متسع والمجال فيه مختلف، فأما الكلام على الكلام، فإنه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعض، ولهذا شق النحو وأشبه النحو من المنطق».
فهذا قول لم يفصح ظاهره عن باطنه، لأن الظاهر هو أن الكلام على الكلام صعب، وهذا لا يعني نقد النقد، فإن الإبداع هو أيضا كلام، والنقد كلام، وهو الراجح، وقد يكون الكلام الأول النقد والكلام الثاني نقده، وهو أمر مستبعد في نظرنا، الأمر الذي يحث على قراءة التراث النقدي العربي بأرقى أشكال البحث الحديثة، لاستكناه حيثيات أكثر تعمقا بالنقد، وبإعادة تأويله، وما يمكن إدراجه في هذا الصدد ما تطّرق له الدارس الدغمومي من تمييز بين مرحلتين؛ هما:1 ـ مرحلة الإرهاص، وهي مرحلة بدأت أواخر القرن التاسع، مع ظهور مصطلح «الانتقاد» الدال على النقد وتقويم النقد قبل ظهور كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» ليكون أول مشروع يؤسس عمليا بدايات «نقد النقد»، التي تعد مرحلة الإرهاص مرحلة أولية وجنينية لنقد النقد، فإنها مرحلة حديثة إذا لم تبدأ إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وبالتالي فإنه من تجليات حداثة نقد النقد العربي، الأمر الذي يمكن رده للكتابات التي ظهرت في تلك الفترة والتي «لم تنظر إلى مسألة نقد النقد على أنها قضية ترقى إلى مستوى تأسيس لفرع معرفي جديد، بقدر ما هي نقد للنظريات القائمة وتصويب لأحكام نقدية بحق نص أدبي بعينه، وتسديد لمسارات ربما تكون قاصرة عن الوفاء بالمعارك الأدبية التي شهدتها الثقافة الأدبية العربية، منها إلى مفهوم نقد النقد التطبيقي، الذي يضم كلا من الانتقاد والنقد الأدبي، في صيغة متوازنة»، وإذا ما أخدنا مصطلح «معارك أدبية»، وكما أشرنا إلى ذلك فإن البحث عن الخلفيات الأبستمولوجية لنقد النقد، ستفصح عن أمور نحن في غفلة عنها، ولا غرابة في أن نجد جذور نقد النقد، خاصة في تلك المعارك الأدبية، فكما هو معلوم فإن طه حسين خاض معارك كثيرة مع محمود عباس العقاد، ومع الرافعي.. وغيرهما، وطه حسين ناقد درس أعمال أبي العلاء المعري في كتابه حول أبي العلاء المعري، وبالتالي فإن معاركه يمكن أن تدرج في نقد النقد، وهو ما عبّر عنه الدارس بقوله: «بالأمواج المتلاطمة والبراكين الثائرة والعواطف الجائحة، وتوالي القذف والسباب، ورمي النقاد خصومهم من الأدباء بأحط ما يمكن أن يوصف به إنسان»، أثناء حديثه عن ذاتية النقد المعاصر، إلى جانب أنه أورد العقاد، وذكر أنه كتب: «في هذا الموضوع موضوع العصبية والهوى والذاتية في النقد المعاصر، أصرح كلمة وأصدقها، وسماها «نقد النقد»، وجعلها أول كلام في ديوانه الذي سمّاه «بعد الأعاصير» وفيها يرى العقاد أنه لا محيص من نقد النقد، قبل تقرير قيمته في عالم الأدب والفن، وقبل الاعتماد عليه في تقرير ما تقبله من آثار الأديب والفنّان». والنص أدرجه الدارس الدغمومي أثناء حديثه عن مرحلة الإرهاص لنقد النقد، ورجعنا بذلك إلى النص الأصلي لتبين سياق وروده، على اعتبار أن هذا النص من بواكير نقد النقد، فإننا نجد الناقد لحميداني يرّد بكتاب بعنوان «نقد الرواية في الأدب العربي الحديث في مصر»، وذكر أنه لمؤلفه أحمد إبراهيم، صدر عن دار المعارف ط ، 1978، في حين أن هناك كتابات أسبق بذلك كـ»الفلك الدائر على المثل السائر، نقد ابن الحديد لابن الأثير»، كانت سبّاقة لممارسة نقد النقد ولها صدى واسع بين جمهور القرّاء، على الرغم من أننا لم نطلع على فحواها بالشكل الذي تنبغي دراسته والوقوف على أهم تجليات نقد النقد في التراث العربي، لكن حدود الوعي بالاختلاف القائم بين كلا المبحثين «لم ترسم بدقة لأن، الأفق المهيمن ما يزال أفق النقد، وكما نعرف فإن تخلق الكيانات المعرفية يحتاج إلى تمييز استراتيجياتها التي تبدأ بتكييف لخصوصية الموضوع نفسه».
لكن هذا الأفق بدأت تتضح صورته بشكل أكثر وضوحا إبان الأزمة النقدية العربية عموما والمغربية خصوصا، وهو الأمر الذي دعا بعض النقاد إلى التفكير في نقد النقد، كبديل للخروج من الأزمة، باعتباره استراتيجية ابستمولوجية، خاصة أن أغلب «من خاضوا معمعة هذا الجدل هم من المهتمين بالكتابة والكتابة النقدية على نحو خاص، ومن المهتمين بالحرف إبداعا وتنظيرا، أي أن زمام المبادرة كان وما يزال في متناولهم وطوع بنانهم وهم ينطلقون من موقع نقد النقد»، وهذا الانطلاق يبدو لنا أنه كان بدون وعي، على الرغم من أنهم كانوا يمارسونه على شكل مقالات، يمكن أن نسميها الرد بالرد الأبستمولوجي النقدي، بيد أن الوعي بالأزمة «ليس وعيا جديدا بالنقد، بل بنقد النقد معه يكون نقد النقد تخصصا في النقد و لو بتجاوز ما كان سائدا في عقد الستينات» هذا العقد والعقد الذي تلاه يمكن أن نسميه مرحلة التطور النقدي في المغرب، التي تعد مرحلة مهمة في الحياة الأدبية والنقدية، الأدبية من خلال إعادة التفكير في شكل النص الإبداعي ومضمونه، والنقدية من حيث أنها كانت كفيلة بقراءة النص الإبداعي وفق مناهج ونظريات مستمدة من الغرب، لكن بدون مراعاة خصوصية هذا الإبداع وسياق ظهوره، وهو موضوع آخر، تطرق له الناقد مبارك أزرا. من جهة أخرى يمكن إرجاع البدايات الأولى لنقد النقد إلى «زمن بواكير التشكل الأول للنقد نفسه، حين بدأت النظريات الأدبية تتفرع وتتخذ لنفسها مسارات مختلفة، إذ مما لا شك فيه أن أي نظرية جديدة في النقد تنطوي ضمنا أو صراحة، على نقد ما سبقها من نظريات».
صحيح أن الممارسات النقدية في بدايتها كانت على تلك الوضعية، لأنها بداية تجريبية، لكن لا أن نتحدث عن نظرية مستقلة ناجعة في تلك الفترة، وتكتسي الطابع المفهومي الحديث نفسه، على أي حال فإن طفولة أي رضيع لا يمكن توثيقها بشكل رصين ومضبوط، كذلك النقد وحقل العلوم الإنسانية عموما، لذلك فإن المرحلة الأولى لنقد النقد تعاني هي أيضا من التشظي وتعدد التأويلات، ولكن المرحلة الثانية تتسم بالقليل من الوضوح، الذي يجعل منها ولو نسبيا مرحلة وعى أصحابها جدة هذا المبحث، والتكفل بمفهوم نقد النقد بشكل ناجع، ويمثل هذه المرحلة الكتب التي تناولت نقد النقد في جانبه التطبيقي، وهي كتاب محمد برادة «محمد مندور وتنظير النقد العربي» وكتاب أحمد أبو حسن «الخطاب النقدي عند طه حسين» ثم إدريس بلمليح «الرؤية البيانية عند الجاحظ» وكتاب محمد عزام «تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحديثة، دراسة في نقد النقد»، الأمر الذي أدى إلى أن النقد ونقده يحتلان «مكانة في سياق التحولات، ولمعاينة واقعنا الأدبي والنقدي نشير بقوة إلى تحقيق قدر مهم من التراكم، لكنها تشير أيضا إلى تلك الثغرة المتمثلة في ضعف نقد النقد»؛ لكن هذا التراكم غير كفيل بأن يؤسس لنقد النقد مرتعا يجعل منه علما مستقلا بذاته له منهجه وإجراءاته وأدواته ومفاهيمه.
ونشير إلى أن العديد من الدراسات العربية التي أنجزت مؤخرا في مجال نقد النقد بدأت تنحو منحى التحليل الأبستمولوجي، وتتخلص إلى حد ما من أسر المقاربات الوصفية الأيديولوجية التي سادت في مراحل سابقة من تاريخ النقد العربي عموما والمغربي خصوصا، ومن هذه الدراسات ما كتبه الناقد جابر عصفور، خاصة الدراسات التي اشتغل فيها على النقد الحديث. كما نشير في هذا الإطار أيضا إلى بعض الدراسات التي تطرق إليها حميد لحميداني حول نقد «النقد الروائي» فقد قدم نموذجا تحليليا لدراسة النصوص النقدية في كتابه الموسوم بـ«سحر الموضوع»، اقتبس هذا النموذج التحليلي عن الناقدة الفرنسية جوهانا ناتالي في تحليلها للنصوص النقدية التي كتبت حول قصيدة «قطط بودلير»، وهو الأمر الذي سنقف عليه في المبحث الرابع، أثناء الحديث عن منهج نقد النقد، بدون أن ننسى ما قدمه الناقد الدغمومي ومساهمته القيّمة في موضوع نقد النقد، وما ظهر من مؤلفات ومقالات في هذا الميدان، على الرغم من أنها محاولات قليلة، إلا أنها تشكل مراحل تطور هذا المولود، الذي لا يزال في طور النمو، وهو أمر عادي ما دام أصلا موضوع النقد الأدبي، أو العلم الأدبي يتخبط في براثن العديد من الأسئلة.
٭ كاتب مغربي
محمد الرحيمي
مقال رائع من شخص رائع
جزاكم الله ، مقال جيد ومتميز ،،?ممكن دراسة جوهانا ناتالي إذا موجودة مترجمة ؟ ??✨