مع دخول العقوبات الأمريكية على إيران حيز التنفيذ، يبدو واضحا ان العراق سيكون، اضطرارا وليس اختيارا، عالقا في سياق هذه العقوبات. وبالتالي لم يكن مفاجئا ان تشهد الساحة العراقية، وليس إيران أو الولايات المتحدة الأمريكية، الارتدادات الأولى لهذه العقوبات. فبعد إعلان رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن العراق سيكون مضطرا للالتزام بهذه العقوبات، على الرغم وصفه لهذه العقوبات بالخطأ الجوهري والاستراتيجي.
توالت ردود الأفعال الشيعية المزايدة على هذا الموقف! فقد صدر حزب الدعوة الإسلامية الذي ينتمي اليه السيد العبادي بيانه بشأن هذه العقوبات بالآية القرآنية: «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار»! معلنا شجبه ورفضه لهذه العقوبات الظالمة، ومطالبا الجميع برفضها والعمل على مقاومتها! بل أن الأمين للعام لحزب الدعوة تعمد الاجتماع بسفير إيران في العراق بعد يوم واحد من تصريحات السيد العبادي. وقد تجاوزت هذه المزايدات القوى الشيعية المحسوبة على إيران، او المتحالفة معها، إلى مؤسسات الدولة نفسها! فقد أصدرت وزارة الخارجية العراقية بيانا يعبر عن رأي وزيرها ابراهيم الجعفري المختلف تماما عن رأي الحكومة العراقية، او رئيسها على الأقل، في تكريس للإطاحة بمنطق الدولة!
ولا يمكن فهم هذه التباينات في المواقف الشيعية إلا في إطار الصراع المفتوح على منصب رئيس مجلس الوزراء. فالسيد العبادي المدعوم أمريكيا لم يكن بإمكانه إلا أن يعلن ما أعلنه، على الرغم من معرفته الكاملة بعدم إمكانية التزام العراق بهذه العقوبات على المدى القصير على الأقل، كما ان موقف القوى الاخرى لا يخرج عن حساباتها للدور الإيراني ومدى تأثيره على القرار السياسي في العراق.
بعيدا عن هذا الاستخدام السياسي لمسألة العقوبات، لا يمكن للمراقب إلا أن يستنتج ان الحكومة العراقية قد فشلت كاملا في التعامل مع ملف العقوبات الأمريكية، فعلى الرغم من الإعلان المبكر عن طبيعة هذه العقوبات، وعن توقيتاتها، لم تقم الحكومة العراقية بأي جهد لإقناع الأمريكيين باستحالة التزامها بهذه العقوبات، بسبب التشابك الشديد بين المصالح الاقتصادية العراقية والإيرانية. على سبيل المثال لا الحصر يعد العراق ثاني أكبر مستورد للغاز الإيراني بعد تركيا (تبعا لأرقام العام 2017 يستورد العراق نحو 14 مليون متر مكعب من الغاز الإيراني يوميا)، وتعتمد محطات انتاج الكهرباء الغازية في العراق، التي تنتج ما يقرب من 47٪ من الكهرباء، اعتمادا كبيرا على الغاز الإيراني، وهذا يعني ان أي التزام بالعقوبات الأمريكية سيؤدي إلى حرمان العراق من كميات كبيرة من الطاقة الكهربائية التي كانت شحتها هي السبب الرئيسي في حركة الاحتجاج القائمة حاليا!
فضلا عن ذلك، ووفقا للأرقام الإيرانية، يبلغ حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران حاليا أكثر من 6 مليارات دولار، وهذا يعني أن ثمة تشابكا لا يمكن فضه بمجرد قرار سياسي، بل يتطلب مدى مقبولا لكي لا يؤثر ذلك بالسلب على العراق نفسه!
بناء على هذه المعطيات، بدا جليا أن التصريحات السياسية العراقية، بمختلف توجهاتها، كانت بعيدة كل البعد عن الوقائع على الأرض. فالوقائع تثبت أنه ليست هناك مصلحة عراقية للوقوف بوجه سياسات ترامب من جهة، كما تثبت أنها تتطلب اقناع الولايات المتحدة بمعاملة العراق معاملة خاصة واستثنائية فيما يتعلق بالعقوبات. فميثاق الأمم المتحدة نفسه أعطى في المادة 50 الحق لأية دولة يمكن ان تواجه مشاكل اقتصادية تنشأ عن تنفيذ أية تدابير يتخذها مجلس الأمن في أن تتذاكر مع مجلس الامن بصدد حل هذه المشكلة، صحيح أن العقوبات الأمريكية على إيران هي عقوبات أمريكية بحتة، ولكن هذا لا يمنع من اعتماد هذه المادة كحجة سياسية، وإن لم تكن قانونية، لإقناع الولايات المتحدة بضرورة أخذ المصالح العراقية بعين الاعتبار.
خاصة وأن الولايات المتحدة تعي تماما طبيعة التغول الإيراني السياسي والاقتصادي في العراق، بل انها كانت متواطئة طوال سنوات ما بعد 2003 مع هذا الدور، في سياق ما أسميناه في مقالة سابقة بـ «اللعبة المزدوجة» التي كانت تمارسها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، فضلا عن الحكومة العراقية. وهذه اللعبة المزدوجة من الصعب تجاوزها في هذه اللحظة بالذات، أي لحظة الحوار على تشكيل الحكومة العراقية القادمة.
فالولايات المتحدة الأمريكية تعي تماما ان خياراتها في العراق مرهونة بالموافقة الإيرانية، وانه من دون هذه الموافقة الإيرانية ليست هناك أية إمكانية لتشكيل الحكومة العراقية أصلا! هكذا وجدنا الأمريكيين في العراق حريصون على فتح قنوات تواصل مباشرة مع قيادات قائمة الفتح، التي تضم القوى السياسية الشيعية الولائية ذات العلاقة العضوية بإيران، في الوقت نفسه الذي كان فيها الكونغرس الأمريكي يناقش مشروع قانون لإدراج بعض القوى المشاركة في قائمة الفتح نفسها على قائمة المنظمات الإرهابية، في محاولة من الأمريكيين للتمييز بين فصائل ولائية يمكن التعاطي معها (منظمة بدر)، ومنظمات ولائية لا يمكن التعاطي معها (عصائب اهل الحق)، على الرغم من معرفتها أن هذا التمييز هو مجرد تمييز براغماتي لا اكثر، وهو ما يعني في النتيجة انها تتعامل مع إيران في العراق بوصفه أمرا واقعا لا مفر منه!
كما ان إيران تعي تماما، بمنطق الدولة الذي يحكمها، أنها مضطرة للقبول بدور أمريكي في العراق، ما دام هذا الدور يضمن لإيران الدولة الحفاظ على ما هو أكثر من مصالحها في العراق!
وأنها يجب أن تستخدم الدهاء الإيراني المعروف لإبعاد العراق قدر الامكان عن الدخول في صراع استقطاب إيراني ـ أمريكي غير مضمون النتائج، يمكن معه ان تخسر كل مكاسبها الاستثنائية في العراق على مدى السنوات الماضية!
في ظل فشل الدولة، وفي ظل هشاشة النظام السياسي، لا يملك العراق بديلا سوى النأي بنفسه، ما أمكن ذلك، عن الصراع الأمريكي الإيراني، وعن الاستقطاب الذي يحكم المنطقة، من خلال اعتماد سياسة واقعية في التعاطي مع ارتداداتهما عليه. وهذا يفرض على الدولة العراقية، وليست الحكومة وحسب، ان تسارع إلى بلورة موقف موحد، متفق عليه، تجاه ما يجري في المنطقة، بديلا عن السياسات الاحتكارية فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية التي اعتمدت طوال السنوات الماضية، والتي لم تفض إلا إلى غياب منطق الدولة.
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي