تراجع سعر صرف الدولار أمام الليرة التركية، نسبياً، يوم الأربعاء، فوصل إلى حدود 6 ليرات للدولار الواحد، بعدما كان قد اقترب من 7 ليرات يوم الجمعة الماضي. وذلك على الرغم من تصاعد النبرة في تصريحات مسؤولي البلدين بشأن قضية القس برونسون، وعلى رغم إعلان تركيا عن عقوبات تجارية على السلع الأميركية، من باب المعاملة بالمثل.
فقد دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مقاطعة السلع الألكترونية الأمريكية، بما في ذلك أجهزة آيفون، وأعلنت الحكومة رفع معدل الرسوم الجمركية على قائمة طويلة من السلع الأمريكية، مقابل رفع الولايات المتحدة معدل الرسوم الجمركية على سلع تركية أساسية كالفولاذ والألمنيوم. وقد رأى بعض المراقبين، في الدعوة إلى مقاطعة السلع الألكترونية الأمريكية، عقاباً لتركيا وليس للولايات المتحدة، بالنظر إلى عدم قدرة السوق التركية على الاستغناء عن تلك السلع. كما من شأن رفع معدل الرسوم على بعض السلع الأمريكية الحيوية أن تزيد من كلفتها على المستهلك التركي، من غير أن تؤثر على إجمالي الصادرات الأمريكية تأثيراً ذا شأن.
مختصر القول أن الحرب التجارية، المحدودة إلى الآن، التي بدأتها واشنطن، للتو، مع تركيا، ليست حرباً بين طرفين متكافئين، والمعاملة بالمثل ستؤثر على الطرف الأضعف أكثر مما على الطرف القوي. وللرد التركي قيمة معنوية سياسية، أكثر من قيمتها التجارية. فالرئيس التركي لا يريد أن يبدو أمام جمهوره أنه ينحني للريح العاتية القادمة من واشنطن في صورة تهديدات وإجراءات عقابية.
ما الذي أدى إلى تراجع حريق سوق العملة الذي كاد أن يجهز على الليرة التركية؟ إنه لقاء جرى بين السفير التركي في واشنطن ومستشار الرئيس ترامب لشؤون الأمن القومي جون بولتون، ولم يتسرب شيء عن فحواه، وإن كان موضوع المباحثات المحتمل بين الرجلين معروفاً للقاصي والداني: إطلاق سراح القس برونسون، وعدد من الأمريكيين الآخرين، بدون قيد أو شرط. في حين يحاول الطرف التركي التخفيف من وطأة الصيغة الإملائية هذه من خلال الحصول على بعض الوعود الأمريكية بخصوص المطالب التركية المقابلة.
أشيع، بعد اللقاء المذكور، جو من التفاؤل باحتمال حلحلة عقدة برونسون تمهيداً لخطوات أخرى متقابلة باتجاه تطبيع العلاقات بين البلدين، فانعكس هذا التفاؤل على سوق النقد في تركيا بصورة إيجابية مع شيء من الحذر.
وتقدم محامي برونسون إلى المحكمة، يوم الثلاثاء، بطلب جديد لإخلاء سبيل موكله وإزالة منع السفر عنه، الأمر الذي بدا وكأنه مخرج قضائي مريح للحكومة، في حال استجابت المحكمة للطلب، بحيث يتم حفظ ماء وجه المستوى السياسي من شبهة الخضوع أمام التهديدات الأمريكية. فكان لتوقع إطلاق سراح القس برونسون بقرار قضائي «مستقل» أثره الإيجابي أيضاً على قيمة العملة التركية أمام العملات الصعبة. لكن المفاجأة الكبرى ظهرت يوم الأربعاء، حين ردت المحكمة على طلب المحامي بالرفض! وهو ما سيفسر أن الحكومة لا تريد اغتنام هذه الفرصة لإخراج الموضوع بطريقة أقل إحراجاً لها أمام الرأي العام المحلي. ومن المحتمل أن يؤثر هذا القرار سلباً على قيمة الليرة في الساعات القادمة. ولكن ما الذي يسعى إليه أردوغان من وراء مقابلة التصعيد الأمريكي بتصعيد مماثل، بدلاً من العمل على التهدئة وإيجاد مخارج معقولة للعقد الدبلوماسية التي سممت الأجواء بين البلدين الحليفين؟
لا يمكن الحديث هنا عن سياسة حافة الهاوية، أو عض الأصابع، حين يتعلق الأمر بخصم كترامب الذي تطغى لديه النزوات الشخصية على الإحساس بالمسؤولية الذي من المفترض أن يتحلى به رجل الدولة، وبخاصة رئيس الدولة العظمى الوحيدة في زماننا. ففي سياسة من هذا النوع، النتيجة محسومة سلفاً للطرف الأقوى، وسينتهي الأمر بخضوع تركي للشروط الأمريكية. وهو ما لا يناسب بروفايل الزعيم الشعبي ذي الكاريزما القوية الذي يتمتع به أردوغان لدى جمهوره الكبير داخل تركيا وخارجها.
في مقالته المنشورة، الأسبوع الماضي، في نيويورك تايمز، هدد أردوغان صراحةً بالبحث عن شركاء استراتيجيين جدد لتركيا بعيداً عن الغرب الأطلسي. فهل هذا ما يسعى إليه حقاً؟ أم أنه يحاول ابتزاز ترامب والغرب بقيمة الموقع الاستراتيجي لتركيا؟ هل يشعر بأن الغرب بحاجة لتركيا أكثر من حاجة تركيا للغرب؟
الواقع أن التفكير بإعادة تموضع استراتجية لتركيا، ليس جديداً. بل طرح في أعقاب نهاية الحرب الباردة، حين دخل في التداول موضوع انتفاء الحاجة الأطلسية إلى تركيا باعتبارها الجبهة المتقدمة للغرب في مواجهة الاتحاد السوفييتي. ومن هذا المنطلق ظهرت أفكار أحمد داوود أوغلو حول «العمق الاستراتيجي» و«تصفير المشكلات مع دول الجوار»، فكانت تلك الاستدارة التركية نحو «حديقتها الخلفية العثمانية» السابقة، أي العالم الإسلامي، بوصفها مجال نفوذ جديد بالقوة الناعمة، أي بواسطة أدوات كالاقتصاد والثقافة والإعلام. غير أن موجة ثورات الربيع العربي قلبت الأمور رأساً على عقب، فاستخدمت تركيا القوة الخشنة بهدف المساهمة في إسقاط النظام السوري. وهنا تضاربت الأجندة التركية مع تلك الأمريكية في عهد باراك أوباما، وبدلاً من الهدف الطموح بإسقاط النظام، عادت تركيا إلى «إعدادات المصنع» الأصلية المحفورة في جينات الجمهورية التركية: منع قيام كيان كردي في جوارها. من المحتمل أن الرئيس التركي لا يريد حل عقدة برونسون لأنه يدرك أن الخلاف الأساسي مع واشنطن إنما يتعلق بموضوع دعم واشنطن لوحدات حماية الشعب (الكردية) في سوريا. ولم يصدر عن إدارة ترامب أي مؤشر على احتمال تغيير هذه السياسة. ولا يملك أردوغان أي ورقة يضغط بها على واشنطن غير ورقة برونسون. ولكن ألا يدرك أيضاً أنها ورقة ضده، لا لمصلحته؟ هذا هو السؤال المحير حقيقة. ذهب أحد الكتاب المعارضين، في تفسير الأمر، إلى أن أردوغان استخدم ورقة برونسون، وهو يدرك عواقب ذلك. كيف؟ قال إن الرئيس هو أكثر من كان يعرف أن البلاد مقبلة على أزمة اقتصادية كبيرة. وهذا ما دفعه إلى تقديم الانتخابات العامة والرئاسية نحو سنة ونصف، لكي يضمن النجاح قبل اندلاع العاصفة التي يمكن أن تطيح به إذا تركت الانتخابات إلى موعدها المقرر سابقاً، في خريف 2019. وتوفر أزمة برونسون، وتداعياتها المحتملة، ذريعة مثالية لتوجيه الحنق الاجتماعي نحو عدو خارجي. الأمر الذي نجح إلى حد كبير إلى الآن. لقد بلغ الأمر بدعاة «وحدة الصف في مواجهة العدو الخارجي» حداً ارتفعت فيه مطالبات بإغلاق قاعدة إنجرلك الجوية وطرد القوات الأمريكية منها، في حين اقترحت إحدى ممثلات التلفزيون أن تطبع الدولة دولارات لحل مشكلة هبوط قيمة الليرة!
حين تكون المناطحة بين شخصين كترامب وأردوغان، تجمع بينهما صفات كثيرة، يصعب توقع أي شيء.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي