copy paste / نسخ ولصق

حجم الخط
0

ذهبت إلى السوق قاصداً حانوتا أعرف صاحبه منذ سنوات، كنت أشتري منه بعض ما نحتاجه للبيت. هذا الحانوت يملكه أحد المواطنين الشباب الذي يشق طريقه المستقبلي بالاعتماد على نفسه، ملبياً في ذلك رغبة تتنازعه منذ الصغر بأن يكون أحد رجال الأعمال. رغم أن الحانوت ليس من تلك المحلات التجارية الحديثة، لكن ما يميزه أنه استحدث طريقة جديدة ومبتكرة في بيع وتغليف أجود أنواع المنتجات الوطنية كالتمور والعسل واللبان، وكذلك التوابل الهندية والأعشاب، بالإضافة إلى ذلك دماثة خلق صاحبه، ما جعله مقصد الكثيرين.
المفاجأة وجدت الحانوت مغلقا وعلى وأجهته علقت لوحة كتب عليها بخط عريض المكان للبيع. شيء غريب فعلاً، أبعد هذه السنوات يؤول هذا المكان للبيع؟ على الرغم من أنه كان ناجحا وله زبائنه، كيف ذلك. أسئلة كثيرة أخذت تتراكض في ذهني. استغربت في الحقيقة فسألت جاره صاحب الحانوت الملاصق له، وهو أحد الهنود البانيان. قلت له ما المشكلة، فقال، المشكلة في ( copy paste) استغربت في البداية ما يعنيه وما يقصده، ثم أضاف، شاهد ماذا ترى أمامك؟ كل شيء متشابه، المحلات تبيع السلع نفسها. كلما نجح مشروع، سرعان ما يتم استنساخه ولصقه في المكان نفسه أو في مكان قريب منه. وبذلك يكون سبباً في إفقار ناس وإثراء آخرين دون سبب على حساب الغير. صحيح الأرزاق بيد الله، لكن هذه فوضى.
أدركت ما كان يقصده. وأنا استمع لذلك الكلام تذكرت أستاذ القانون المدني وهو يشرح لنا قاعدة الإثراء بلا سبب على حساب الغير كمصدر للالتزام، وهي أن يتلقى فيها شخص حقاً، أو مالا نتيجة افتقار وقع على ذمة شخص آخر. فضرب لنا مثال عن ذلك، يقول فيه إنه يوجد في إحدى الدول الأوروبية مقهى عريق منذ سنوات يقع في موقع ممتاز وناجح جداً وله زبائنه وسمعته، نجح ذلك المقهى واشتهر بشكل واسع وكان يدر أرباحا مالية على مالكه، ما دفع أحد الأشخاص لفتح مقهى آخر شبيه له وبالقرب منه، فانقسم الزبائن على المقهيين، ثم تحول زبائن المقهى الأول وهجروه إلى المقهى الثاني، فتكبد صاحب المقهى الأول خسائر فادحة وتسبب في إفقاره، في المقابل كان صاحب المقهى الثاني يتجه للثراء. فما كان من صاحب المقهى الأول إلا أن لجأ للقضاء فرفع دعوى أمام المحكمة بتهمة الإثراء بلا سبب، واستطاع أن يحصل على حكم من المحكمة تجبر صاحب المقهى الثاني على إغلاق مقهاه ودفع تعويض مالي عن الخسارة التي لحقت بصاحب المقهى الأول.
أعود الى صاحبنا الذي يبدو أنه لم يستطع المقاومة، فأغلق الحانوت وذهب، ولا أدري كيف توصل إلى ذلك القرار، ربما تصرف دون أن يعلم أن هناك قانونا قد ينصفه، أو ربما لا يوجد في الأساس قانون، أو ربما يوجد قانون وهو يعلم ذلك، لكنه لا يستطيع أخذ حقه لأسباب عدة، فآثر الانسحاب وإغلاق حانوته.

على وقع تلك الحادثتين أثارت انتباهي وتدافع الكثير من الأسئلة والاستفسارات عن الواقع الذي نعيشه في معظم الدول العربية، المسألة الأولى تكمن في الإثراء المتوحش الذي يأتي بلا سبب متجاوزا كل الحدود القانونية والأخلاقية، كم هم الأشخاص الذين أثروا بلا سبب وعلى حساب أشخاص كثيرين، كم من أشخاص خسروا أموالهم ولم يجدوا من ينصفهم بسبب المنافسة غير الشريفة، والاحتكارات والإثراء الذي يأتي طارئاً، كم هم الذين ضاع حقهم الفكري ولم يشفع لهم لا قانون ولا قضاء، كم من أشخاص متخمين يكنزون الأموال التي استولوا عليها إما بالاحتيال أو بوضع اليد عليها، لدرجة أن تلك الأموال تضمن عيش أجيال من ذويهم وعلى مرّ سنوات طوال، كم هم الذين أثروا من أموال خاصة، أو من مال عام دون رادع أو رقيب. ليس الإثراء بلا سبب وحده، لكن هناك الكثير من القوانين وفي الاتجاه نفسه تتقاطع مع الإثراء بلا سبب مع العديد من النظريات القانونية كالملكية الفكرية والفساد والضرر، وغيرها من الالتزامات التي تولد الثراء، يحدث ذلك بينما تزخر القوانين المدنية في أغلب الدول العربية وتشكل ترسانة متراصة من المواد القانونية الرادعة التي تجرم تلك الأفعال، وإن جاءت بصيغ مختلفة. ربما يقول قائل إن ذلك لا يضير، فالتجارة شطارة كما يقال، لكن التنظيم مطلوب عوض العشوائية والفوضى واللا تنظيم. تقوم النظرية الاشتراكية بأن الدولة تتدخل في التنظيم والإشراف على القطاع الخاص، وتتدخل عندما ترى أن التجارة انحرفت عن مرماها وتضع الكواسر والمكابح لإعادتها لمسارها، بينما الرأسمالية تركت الحرية في ممارسة التجارة ولا تتدخل إلا بوضع القوانين والأنظمة المسيرة لذلك. في الحقيقة ما تعيشه الدول العربية هو اللاتنظيم واللا شيء، هو بكل بساطة العشوائية والفوضى.
ثمة شيء آخر هو آلية القطع واللصق أو copy pasta) ( التي ذكرها صاحب الحانوت، واستخدامها لوصف تلك الظاهرة، فتلك الآلية أصبحت ثقافة لها روادها وتابعوها، ثقافة اكتسحت كل شيء في الحياة وأصبحت عنوان العصر وثيمته، ولم يقتصر استخدامها في الأعمال الأدبية والفنية، وأصبحت تشكل خطورة تكمن في تجاوزها كل شيء وقفزها فوق كل الخطوط، وتعدت ذلك بالطبع على الصناعات والبضاعة الرديئة التي باتت تغزو الأسواق، والأعمال، لدرجة فقدت أشياء كثيرة طعمها ولذتها، فقط لكونها أصبحت متاحة ومتوفرة ولا تحتاج إلى عناء وتفكير، يتلاشى فيه الابتكار والاختراع ويحل مكانه مزيدا من التبسيط والتسطيح والاهتمام بالقشور على حساب المضمون، إلى أين نحن ذاهبون؟ ذلك سؤال مستعصٍ تتبدد إجابته وتتلاشى، لكنه سؤال لا يبرح ولا يغادر ذواتنا.

كاتب عماني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية