Q وترامب: لماذا يؤمن الأمريكيون (مثلنا) بالخرافات؟

في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2003 افتتح مراهق أمريكي يسمى نفسه «moot» موقع إنترنت باسم (4 تشان) نقله بحذافيره عن موقع ياباني يدعى (2 تشان). كانت يابان التسعينيات متفوقة في الإبداعات التكنولوجية والبصرية، وانتشرت في العالم حينها مجلات القصص المصوّرة اليابانية (الأنيمي)، والرسوم المتحركة للأطفال والألعاب (غرندايزر وبوار رينجرز وبوكيمون وغيرها)، ومنظومات التواصل الأيقونية مثل «الإيموجي» (كان استخدام إيموجي الوجه الضاحك الذي نستعمله في واتساب سيناسب عنوان هذا المقال).
سبق اليابانيون العالم أيضا، وقبل اختراع آيفون، بتصفّح الإنترنت على أجهزة هواتفهم، وبوجود فئة من البالغين (الأوتاكو) التي ظلت أشبه بالأطفال الرافضين للاندماج في المجتمع. تداعيات ما حصل في اليابان ستحصل في أمريكا، ولكن بنسب أضخم بكثير، ومنها بعض السلوكيات المتطرفة والحوادث العنيفة (كواقعة تحريض مشاركي الموقع شابا على خطف حافلة، ما أدى لقتله أحد الركاب بسكين)، وكذلك ظهور اتجاه سياسي يميني يدعى «نت رايت» يطرح إعادة اليابان «عظيمة مجددا». كانت هذه بروفات لما سيظهر، وبأكلاف هائلة، في أمريكا، والعالم.
كانت سرية المشاركة في الموقعين حدثا ثوريا بمقاييس تلك الحقبة، وعندما انطلق بث النظير الأمريكي فقد بدأ بجمع آلاف الشبان الساخطين والراغبين في العبث والفوضى والانفتاح غير المحكوم بضوابط، وانتهى الأمر بالموقع الأمريكي، بعد سنوات، بجمع أكثر من 25 مليون عضو. كان الموقع زاخرا بالمقالب وأشكال التصيّد Trolling والقفشات العنصرية والجنسية والفكاهات الهدامة، بلغة غير مقبولة ثقافيا اخترعها المشاركون. كانت تلك بداية ظواهر ستطبع عالم الإنترنت لاحقا مثل، الإدمان على «التصفح اللانهائي»، والتنقّل بين الواقع والخيال، وتحوّل القضايا السخيفة إلى مؤثرات في الشارع. كان أغلب المبرمجين الأوائل، أشخاصا يشعرون بالوحدة والفضول، ويريدون اختراع شخصيات مغايرة لحقيقتهم على الإنترنت، والحديث عن ألعاب الفيديو والأنيمي، وسرعان ما انجرّ بعض المبرمجين الناشطين إلى التحرّش بمواقع أخرى.
أول اشتباك لهم، ولأسباب عرضية تماما، كان مع مذيع مشهور يؤيد النازية الجديدة، وأدى كشفهم علاقته كمخبر بالسلطات إلى طلاقه وسجنه، وكان الاشتباك الثاني مع مؤسسة كبيرة هي كنيسة الساينتولوجي، الثرية جدا التي ينتمي لها ممثلون مشهور مثل توم كروز وجون ترافولتا. وحين طلبوا على موقع يوتيوب من مناصريهم التظاهر أمام مبانيها، تفاجأوا أنهم انقلبوا إلى حركة جماهيرية شديدة التأثير.
من أستراليا مرورا بأوروبا ووصولا لأمريكا، نزل آلاف الشبان استجابة لدعوتهم، إلى الشوارع لابسين، كما طُلب منهم، قناع غاي فوكس (شخصية تاريخية لمتمرد بريطاني حاول حرق البرلمان)، وحين حظر مدير الموقع التظاهرات انشقّ المبرمجون وأسسوا الحركة الشهيرة المسماة Anonymous (مجهول). شارك ناشطون قريبون لليسار في (مجهول) بقوة في دعم حركة «احتلوا وول ستريت» المناهضة للقطاع المالي. جوبهت الاعتصامات والمظاهرات بقمع عنيف، فاندفع مبرمجو Anonymous إلى رد فعل عنيف أيضا فاخترقوا مواقع المخابرات والشرطة الفدرالية، فطوردوا وسجن، جيرمي هاموند عشر سنوات، وساد شعور باليأس ضمن الحركة.
يمكن اعتبار تلك الفعاليات التي تجمع بين قوة تأثير الإنترنت والتظاهرات بروفة أولى لحراكات شبابية ستغيّر العالم. تناظر ذلك حينها مع لحظة أمل بالتغيير في أمريكا، مع انتخاب باراك أوباما عام 2010، ولكن مع تراجع هذا الأمل أصبح الموقع الأم (4 تشان) حاضنة للخيبة ولرجعية سياسية، منها حملة كراهية فظيعة للنساء. أدى حظر مجموعة كره النساء في «4 تشان» إلى ظهور موقع أكثر تطرفا يدعى «8 تشان»، سينتبه له موقع برايتبارت اليميني المتطرّف، الذي يقوده ستيف بانون (مستشار ترامب اللاحق)، فيقيم صلة قوية معهم. من تلك اللحظة سيبدأ هؤلاء بتوظيف مواهبهم وسخطهم لتأجيج حملة كبيرة ضد هيلاري كلينتون، تتبعها وسائل التواصل الاجتماعي المبتهجة بالغضب والكراهية وتزايد العائدات. بتفعيل بانون لمن سماهم «الذكور البيض المنقطعو الجذور» سيحولهم إلى قوة سياسية لا يستهان بها. استخدم هؤلاء مواهبهم في الحيل الصبيانية، ونقل المعلومات المضللة إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل وصبوا جهودهم لصالح اليمين المتطرف، مما ساهم بدور كبير في إنجاح حملة ترامب الرئاسية الأولى، وعلّق بعض مبرمجي «4 تشان» حينها قائلا: نحن صنعنا ترامب!
ظن عديدون في هذين الموقعين أن لدى ترامب خطة سرية لـ»تجفيف مستنقع واشنطن»، كما قال وحين لم يحصل شيء مما تخيّلوه، بدأت الأمور تأخذ طابع المرض النفسي الجماعي.
قرأ شاب يدعى آيزاك بيانا على موقع «4 تشان» لشخص مجهول موقع بالحرف Q يقول فيه «كل شيء له معنى» واضعا بعد الجملة ثلاث إشارات زائد، ثم نشر الموقع بعد 7 دقائق تغريدة لترامب يضع في نهايتها ثلاث إشارات زائد، فاستنتج آيزاك أن: «هناك شخصا اسمه Q ضمن بطانة ترامب يوجّه رسائل سرية للأمريكيين». مع تتابع ظهور تلك العلامات تحوّل آيزاك الى ما يشبه الراهب المعتكف لمتابعة الآثار التي يتركها Q Anon (كيو المجهول الهوية) كما بدأ يسمّى، قائدا حركة ستصبح لها أدبيات ميثولوجية من قبيل أن كلينتون والديمقراطيين هم جزء من «كابالا» (طائفة سرية) شيطانية تشرب دماء الأطفال!
انتشرت هذه الحركة بين أنصار ترامب، وحين سئل مرة عن آرائهم العجيبة رفض إنكارها، وعندما خسر ترامب انتخابات 2020 وقال إنها سرقت منه كان عناصر طائفة QAnon هؤلاء هم في طليعة من اقتحموا الكونغرس!
خلال اجتماع مع «قادة الحركة» يكتشف آيزاك أن هؤلاء مبرمجون في «4 تشان» يقومون بتزييف التنبؤات ويتمازحون معه قائلين إن ما يفعلونه أهم من مسلسلي «صراع العروش» و»بيت الورق» (كلا المسلسلين عن الكواليس الخفية للاستيلاء على السلطة).
قرّر الشاب البريء هذا أن يكشف «المؤامرة» للأمريكيين، وتحوّل بذلك من قائد في «كيو أنون» إلى فاضح لهؤلاء المحتالين. بث حلقة ذكر فيها التفاصيل وقال: «اليوم يموت كيو». المفاجأة كانت أن جمهور الطائفة ممن آمنوا أن ترامب هو المسيح الجديد، وأن أعداءه في الحزب الديمقراطي وهوليوود هم من قتلة الأطفال وآكلي لحم البشر، رفضوا التصديق! شعر مبرمجو Anonymous الأوائل من اليساريين بفظاعة ما يحصل. «لقد شاركنا جميعا في تقويض الواقع»، يقول أحدهم في فيلم وثائقي. «لكن لم نرد أن تتحول الأمور الى رسوم متحركة حية». قام هؤلاء باختراق مواقع اليمين المتطرّف، وكشفوا أسماء وبيانات كل من شاركوا في هجوم الكونغرس. يقول عالم الأعصاب دين برنيت، في كتابه «المخ الأبله»: كان ظهور الإنترنت والتزايد المستمر في ترابط المجتمعات هبة كبيرة لنظريات المؤامرة؛ صاروا يستطيعون الآن بسهولة أن يجدوا «أدلة» على نظرياتهم بخصوص حادثة 11 سبتمبر/أيلول، أو يشاركوا استنتاجاتهم الجامحة، بشأن وكالة المخابرات المركزية ومرض الإيدز، مع أشخاص يشبهونهم في التفكير، دون الحاجة إلى الخروج من المنزل مطلقا.
حسب برنيت فإن «ميلنا لرؤية الأنماط في الأشياء (غير ذات الصلة في أغلب الأحيان) هو ما يربط نظريات المؤامرة بالخرافات»، ومن أمثلة ذلك أنك إذا «كنت ترتدي سروالك الداخلي مقلوبا عندما ربحت بطاقة يانصيب فإنك تبدأ بارتدائه مقلوبا لتربح مجددا!»، وإذا مات شخصان في شهر واحد واعتبرت أن كلاهما مؤثر سياسيا واستنتجت أنهما «في الحقيقة» تم اغتيالهما، فإن نظرية مؤامرة جديدة تبدأ بالتخلّق! الحقيقة أن حالة الخرافة الجماعية تلك لم تقتصر على الأمريكيين، فهناك زميل صحافي كان متابعا لها ويرسل لي أفكارا شديدة الغرابة بشكل شبه يومي، بل إن ابنتي، وهي نسوية راديكالية، تأثرت خلال حملة «8 تشان» على كلينتون، كما تأثر ملايين من متابعي الإنترنت في العالم.
يذكر ذلك طبعا بفيض عربيّ من نظريات المؤامرة والأفكار السياسية الخرافية، من قبيل استخدام حسابات الأرقام لمعرفة تاريخ نهاية إسرائيل إلخ، أو إيمان كتاب وصحافيين بوجود وكالة خفية تدير العالم. يعيد هذا أيضا التذكير بالموجة الطامّة في الثقافة «العالمة» العربية منذ القرن الماضي، التي أخذ كتابها على عاتقهم حلّ أزمات الأمة العربية عبر فضح «خرافات العقل العربي»، ونقد «العقل الإسلامي»، واقترح كثير منهم ما يشبه تعاطي وصفات جاهزة لاستبدال العقل الخرافي بعلمانية ماركسية، أو بعقلانية أرسطية، باعتبار أن مشاكل العرب والمسلمين هي في دينهم، أو لغتهم، أو ثقافتهم، ثم اكتشفنا، بعد عقود، أن قادة إسرائيل، التي هزمتنا مرارا وتكرارا، لا يقلون خرافة عنا، وأن الجنون الجماعي الذي جاء بترامب إلى السلطة مرة، أعاد إحضاره مرة ثانية!

كاتب من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية