كلمة السّر قديمة جدا، أشهرها في تراثنا «افتح يا سمسم» في قصة «علي بابا والأربعون حرامي». وأذكر أن كلمة (سمّاق) كانت كلمة السر في إحدى قصص الجدات، وهناك نكات كثيرة عن كلمة سِرّ بين الرجل وزوجته، تعني نيّتهما الاجتماع بعد نوم الأطفال، وذلك في الأسر الفقيرة والبيوت المكتظّة، عادة يكتشف الأطفال كلمة السِّر وما ترمي إليه. إحداها تقول إن أحد الأطفال رأى الإشارة وهي إشعال الأب لولاعته، كرّرها الوالد عدة مرات دون جدوى، فقد كانت الزوجة متعبة وتغط في نوم عميق، حينئذ أيقظها طفلها وقال لها: «يما قومي عند أبوي أحسن ما يحرق البيت».
كانت إذاعة الثورة الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي تخصّص فقرة لكلمات السِّر، وكانت عبارة شفافة جدا، من فلان إلى فلان «وصلت الهدية»، تتكرر كثيرا، والهدية على طريقة رواية أم سعد لغسان كنفاني، لا تعني سوى السِّلاح.
أصبحت كلمة السّر جزءا من حياتنا اليومية، وبعدما كنا نستخدم واحدة أو اثنتين قبل سنوات قليلة، صارت كلمات السِّر تتراكم وتزداد يوما بعد يوم، فكي تدخل هاتفك تحتاج إلى كلمة السّر، وكذلك إلى حاسوبك الأرضي، ثم حساباتك في مواقع التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني من مختلف الشركات، والكثير من التطبيقات التي تطلب كلمة سر، كذلك الأمر على مداخل الكثير من البيوت، والعمارات التي لا تستطيع دخولها إلا بأرقام سرّية، وحساباتك مثل المصرف، ومؤسسات رسمية مثل مصلحة الضرائب والتأمين الرسمي الإلزامي وتأمين الحياة إذا وُجد، ودفع الحساب لشركة الكهرباء، والهاتف والماء، والاشتراك في صحيفة إلكترونية، حساب قصص أطفال مصورة، حساب مواقع لمقالات ودراسات مهمة، حساب مواقف السيارات، وجمعية للفنون أنت عضو في إدارتها، كلهم يطلبون منك كلمة سّر، إضافة إلى أرقام تشغيل محرّك السّيارة، عادة لا تبقى سرا، فهي تكتب على المظلة فوق رأس السائق.
ليس سهلا أن تحفظ عن ظهر قلب جميع كلمات المرور، ولم يعد الاتكال على الذاكرة كافيا، خصوصا تلك الحسابات التي لا تستعملها إلا نادرا، وبعد تجربة نسيان كلمات مرور كنت أختارها بصورة عشوائية، أدركت أن ذاكرتي صارت تخونني، فيخبرني التطبيق أن كلمة السِّر التي أدخلتها غير صحيحة، أو قديمة، وعليك أن تكتب الجديدة، ثم يسألك: هل نسيتها! ويرشدك إلى كيفية تجديدها، في البداية كنت أشعر بالخجل من التطبيق الإلكتروني لكثرة الأخطاء وإعادة تجديد كلمة السّر، واستغرق معي وقتا لأستوعب أنه لا حياء في الإلكترونيكا، وهو لطيف لا يتذمّر ويقول لي إنها ضعيفة، فأقوّيها بإضافة رمز ما، فيقول لي لا بأس، فأضيف حرفين فيرد، «هذه قويّة».
عملت نظاما جديدا لكلمات السِّر، وهي كلمة سِرّ واحدة لجميع حساباتي (رغم أنه غير محبّذ)، أضيف لكل حساب اسما قريبا مني ورقما تسلسليا أحفظه بسهولة، عادة أضيف اسم جار أو صديق أو صديقة، أو فاكهة الموسم، مثلا، بطيخ، أو مشمش، أو تين، فقوس. أو طبخة اليوم، بامية، أو فلافل، مثلا، زائد كلمة السّر الثابتة والرقم التسلسلي الإضافي. ما ضرورة كل هذا؟ يا أخي، هل عندك حسابات تخصيب اليورانيوم؟؟ أم في حسابك ملايين تخشى سرقتها؟
تقول النكتة إن رجلا قال لزوجته اطلبي وتمني أي شيء في نفسك وسألبيه لك، فقالت له: على بالي آكل لحم نمر، فرد مندهشا: ولو؟! هذه صعبة، يا ريت لو أسهل منها، فقالت له أعطني كلمة سر هاتفك لأدخل إليه فرد عليها: على كل حال، تريدين لحم النّمر مشويا أم كفتة؟
بعد مرور أشهر، تختلط عليّ الأسماء، يا ترى هذا حساب رشيد أم فتحية أم نهاد؟ أحاول التذكّر.. أجرّب البطيخ أو الفقّوس، البرتقال! ربما أنه زبيب، أو شيشبرك، بل مقلوبة؟؟
ولأن الإنسان من النسيان كما يقال، صرت أكتب كلمات السّر على صفحة الملاحظات في الهاتف، فجمعت العشرات منها، جديدة وقديمة، ولكن الهاتف أيضا ليس معصوما، فقد سرق مني على شاطئ البحر، دخلت المياه وتركت الحقيبة بالقرب من أسرة عربية كانت تحت مظلة على الشاطئ، عندما عدت لم أجد الحقيبة، سألت الأسرة العربية عن الحقيبة التي كانت هنا؟ فقال الرجل: أخذها شاب قبل دقائق ظننته رفيقك!
-يا ابن الحلال.. رفيقي يأخذ حقيبتي ويختفي؟ لماذا لم تسأله؟؟
-لقد ذهب إلى ذلك الاتجاه، يرتدي «شورت» كحليا…
رحت أبحث وأبحث، واكتشفت أن عشرات الحقائب تشبه حقيبتي، ومعظم الرجال على الشاطئ بالشورت الكحلي، هذه أول مرة يحدث لي مثل هذا، ولكن دائما توجد مرة أولى، ومن الآن فصاعدا يجب الحرص أكثر.
أعلمت شرطة الشاطئ، فقدموا لي وصفا دقيقا لشخص يمارس هذه الهواية، وهناك احتمال أن يكون هذا من نشاط سيدة روسية سمينة وزوجها.
في المحصلة، ضاعت الحقيبة والهاتف، وملابسي، ومفتاح السيارة، ومبلغ صغير من النقود، وبطاقتي الشخصية وبطاقة اعتماد، يجب العمل الفوري على إلغائها.
خلال دقائق، اكتشفت أن حياتنا باتت مرتبطة بهذا الجهاز الصغير، الذي يحوي جميع أرقام أبناء الأسرة والأصدقاء والأقارب والجيران وزملاء عمل، ومئات الصور التذكارية منذ سنوات، وتسجيلات صوتية، وأفلاما قصيرة، تخصّني في مناسبات عزيزة ونشاطات عديدة.
حاولت تذكر رقم هاتف أحد الأصدقاء كي أطلب المساعدة، فأنا على الشاطئ، ليس معي شيء غير لباس البحر الذي أرتديه.
لم أستطع تذكّر رقم صديق ولا أرقام الأبناء، اكتشفت أنني أحفظ أجزاء منها، البداية دون النهاية أو العكس، أو أنني أخطئ في ترتيبها، الرقم الوحيد الذي تذكرته كاملا هو رقم زوجتي. اتصلت بها من هاتف شاب من أبناء القرية عرفني قبل أن أعرفه، التقيته على الشاطئ، أخبرتها بما حدث، وطلبت منها أن ترسل أحد الأبناء مع مفتاح السيارة الاحتياطي.
الأبناء في العمل، وهذا سيستغرق وقتا.
لم نعثر على مفتاح السيارة الاحتياطي، وهذا تطلب استدعاء مختص في فتح الأقفال، وصناعة مفتاح جديد، كان النهار مكلفا، وفيه بعض العبر، منها ما يخص الورق والقلم، فنحن ما زلنا بحاجة إليهما، لتسجيل بعض الأرقام والمعلومات المهمة، كي لا نفقدها في خطأ إلكتروني، أو إذا فقدنا الهاتف وما يحمله من ملاحظات.
اقتينت هاتفا جديدا، واستعدت بعض أرقام الاتصال المسنودة، ولكن بقيت كلمات السّر مفقودة، وكان عليّ تجديد ما نسيته، هذه المرة رأيت أن كلمة sarakoona تستحق أن تكون كلمة السّر المركزية في سلسلة كلمات السِّر الجديدة مثلا (سَرقونا + قرنبيط 24).
مقال رائع وجميل أسلوبك السردي دوماً منفرد والواقع الذي تكتبه كلنا به متورطين..
فعلاً حيث أصبحت الحياة على كف إلكتروني عليك بكلمة السر او كفك عالضيعة …
هكذا هي الحياه اصبحنا
بحاجة لتغيير كل ما تربينا عليه
واصبحت الرموز حزءا اساسيا فبي حياتنا .
بل اصبح سرك عليه ان يكون اسيرك..فاذا حررته
…اصبحت انت الأسير… خاصة اذا وقع في يد انسان بدون ضمير تبقى انت تحت رحمته . خاصة واننا نرى ما آل الية الوضع من محاولات سرقه وتشوبه سمعه وابتزاز مادي وغيرة .
جميل جدا طريقة سردك الساخرة المتكاملة من القدم الى اليوم المعبرة في ذات الحين كما عودتنا دائما على روائعك الادبية .
دمت بخير ولا جف قلمك ابو سمير .
مقالة قصصية جميلة تعرض فيها أمرا يحدث مع اغلبية أبناء جيلنا. في مواقف عديدة ضحكت، مثلا «يما قومي عند أبوي أحسن ما يحرق البيت». او “على كل حال، تريدين لحم النّمر مشويا أم كفتة؟” استمتعت بالقراءة والمتعة هي من وظائف الأدب. بوركت
لا حول ولا قوة الا بالله
مقال جميل جداً يُلخص ما يواجهه الكثير منا وما نواجهه في عالم الالكترونيكا وكلمات السر halakona
عتبي أنكَ نسيت الجزر?
مقاله رائعه جدا ذكرتني بمخاوف سقراط حيث انه وفي القرن الخامس عشر قبل الميلاد كان يخشى أن يؤثّر اختراع الكتابة على الذاكرة البشرية ويؤدي إلى ضعفها، لكن الواقع أن هذا لم يحدث، فعلى العكس من مخاوفه طوّر العقل البشري قدراته إزاء السطور المكتوبة، حيث أصبحنا قادرين على التعرف بشكل فوري على الحروف وربطها بالمناطق الصوتية واللغوية، بحيث نضع الكلمات التي نقرأها في جمل وقصص ورؤية كاملة للعالم من حولنا. نعم، قد لا تحتفظ أذهاننا بالحكاية لكننا نحتفظ بالقدرة على تحليلها ومقارنتها بالحكايات الأخرى.
نعيش اليوم مخاوف مماثلة لتلك التي عاشها سقراط، مع التطور الرقمي الذي يتيح لنا استعادة المعلومات فورا، والوصول إلى كل ما نود البحث عنه عبر شبكة الإنترنت، فهل حقا ستفقد الذاكرة البشرية قدراتها؟ وما الذي يمكننا فعله لنحافظ على ذاكرتنا؟وه أصبح الهاتف هو الذاكره؟
هذا مع العلم وكما اشار كاتبنا الرائع بأن امتداد الذاكرة الرقمية، ليس فقط للمعلومات وإنما أيضا للحفاظ على الذكريات الشخصية في شكل رقمي ،( يتبع)
( تكمله ثانيه ) حيث أصبحت لحظاتنا المهمة مخزنة على الهاتف الذكي رغم خطر فقدانها في حالة فقد الجهاز أو سرقته، وهو ما يعتبر محل قلق كما حدث مع الأستاذ سهيل، ومعرض لان يحدث مع أي شخص منا.
والسؤال الاعمق الذي يطرح نفسه: هل سيصيبنا الإنترنت بفقدان ذاكرة جماعي؟
في كتاب محاوره فايدروس” لافلاطون حيث قال الإله المصري تحوت مخترع الكتابه :هاك أيها الملك تاموز .. معرفة ستجعل المصريين أحكم وأكثر قدرة على التذكر. لقد اكتشفت سر الحكمة والذاكرة. أما الملك فقد أجاب: يا تحوت، يا سيد الفنون الذي لا مثيل له: هناك رجل قد أوتي القدرة على اختراع الفن، وهناك رجل غيره هو الذي يحكم على ما جلبه هذا الفن من ضرر أو نفع لمن يستخدمونه. والآن، وبوصفك مخترع الكتابة، أراك قد نسبت لها عكس نتائجها الصحيحة بدافع تحيزك لها. ذلك لأن هذا الاختراع سينتهي بمن سيعلمونه إلى ضعف التذكر، لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون على المكتوب.
اذا النقاش والجدال هنا حول اختراع تحوت لتكنولوجيا الكتابة الثورية والذي يحسب رأيه لن يؤتي المصريين الحكمة على الإطلاق.( يتبع)
(تكمله ثالثه ) فبدلا من اكتساب قدرات حفظٍ جديدة سيفوض المصريون ذاكرتهم إلى نظام خارجي، وهكذا سيفقدون القدرة الطبيعية على امتلاك الذاكرة الداخلية، التي هي حجر أساس المعرفة. ستتدهور ذاكرتهم، وحكمتهم، مع تزايد تخزين المعرفة في رموز خارجيه.
ان من المدهش أن يظل اقتباس يزيد عمره عن ألفي سنة وثيق الصلة بالواقع المعاصر الذي نعيشه الان فتحوت يؤمن بان باختراعه الحروف قد وجد طريقة لحفظ ذواكر المصريين، وأنه بهذا قد منح الشعب المصري حكمة تتجاوز حدود الإمكانات الطبيعية.
اذا في عصرنا الحالي هل تكيفت أدمغتنا على النسيان بفعل تفويض مهام الذاكرة وبفعل تدهور القدرة على الانتباه، ما يجعلها تفتقر إلى الكفاءة في عملية التذكر. وهل علقنا في دائرة لا نهائية: كلما تزايدت صعوبة تخزين المعلومات في ذاكرتنا البيولوجية، بفعل استخدام الإنترنت، اضطررنا أكثر إلى الاعتماد على بنوك الذاكرة الخارجية.
إذن، هل كان سقراط على حق؟ هل يعني اعتمادنا المتزايد على الوسائل التقنية الخارجية أن البشرية محكوم عليها بمستقبل من ضعف التركيز والخرف الاجتماعي؟( يتبع )
(تكمله رابعه )ربما يبدو الأمر كذلك. لكن هناك طريقا آخر.
قبل أن تضمر.. كيف نحافظ على الذاكرة؟
إننا لن نستطيع التخلي عما تقدّمه لنا التكنولوجيا، لكن هناك بعض الوسائل والعادات التي يمكننا من خلالها الحفاظ على ذاكرة نشطة لا تتعلق كلها بالتكنولوجيا، حيث يربط العلماء بين الذاكرة الجيدة وعوامل أخرى متعددة مثل السن والنشاط الذهني وجودة النوم والنظام الغذائي، وهذه هي بعض العادات:اولا:ممارسةالرياضة الخفيفة
حيث توصلت دراسة حديثة أجراها علماء في جامعة كاليفورنيا إلى أن 10 دقائق فقط من النشاط البدني الخفيف يكفي لتعزيز التواصل مع الدماغ ومساعدة الدماغ على التمييز بين الذكريات المتشابهة. وقد لاحظ العلماء زيادة نشاط الدماغ والاتصال بين الأجزاء المسؤولة عن تكوين الذاكرة بعد فترة قصيرة من التمارين الخفيفة مثل المشي البطيء واليوغا.
ثانيا :قسط مناسب من النوم ، فقد عاش أجدادنا هكذا، ينالون قسطا مناسبا من النوم في مواعيد محددة،( يتبع)