ستواجه الرئيس الأمريكي جو بايدن حزمة من المعضلات والمشاكل، في الداخل الأمريكي، تنتظر من إدارته، التصدي وإيجاد الحلول لها. ففي الداخل الأمريكي المنقسم على ذاته مجتمعيا، ينتظر من هذه الإدارة معالجة الانقسام الداخلي، بما يحفظ للولايات المتحدة وحدتها.
بايدن يختلف عن سابقيه، الديمقراطي والجمهوري؛ فهو قادم من قلب المؤسسة الأمريكية، وله تاريخ طويل جدا في العمل فيها، سواء، نائبا للرئيس السابق أوباما، أو عضوا في مجلس الشيوخ. لكن المشاكل التي ستواجه إدارته، بالغة الصعوبة. فترامب لم يكن في سياق صعود الشعبوية والعنصرية الأمريكية، سببا رئيسيا في تأجيجهما، بقدر ما كان صعوده في انتخابات عام 2016 نتيجة لهذه العنصرية والشعبوية. لكنه في المقابل زاد من سخونتها وحرارتها، بما جعلها تطفو واضحة على سطح البحر الأمريكي المتلاطم الأمواج.
بكل تأكيد أن الولايات المتحدة سوف تتغلب على الأوضاع المضطربة فيها بفعل رسوخ وتجذر مؤسساتها الديمقراطية، وبما تمتلكه من المطاطية البيئية، على صعيد تعديل قوانين وسن قوانين جديدة، والقدرة على التكيف لتحولات البيئة في السياسة والمجتمع والحواضن المجتمعية، عبر تاريخ طويل من التحولات، التي اقتضتها أو فرضتها عليها؛ التبدلات والتغيرات في المجتمع الأمريكي. وهذا على وجه التحديد؛ ما فوّت على ترامب الفرصة في منع مصادقة الكونغرس على فوز بادين برئاسة الإدارة الأمريكية، لكنه مع هذا، تمكن من إحداث شرخ في هذه المؤسسات التي وقفت بقوة وصلابة في التصدي لما قام به اتباع ترامب. ليتم على ضوء ذلك حفل تنصيب جو بايدن، بعدما تحولت العاصمة واشنطن إلى ما يشبه عواصم الوطن العربي، التي تسود فيها الفوضى والاضطراب، في ظروف مشابهة إلى حد ما من هذه التحولات. ترامب حين غادر البيت قال وهو يشير إلى أنصاره من العنصريين البيض؛ نتمنى أن لا يطول بنا هذا الوداع كثيرا. وهي إشارة واضحة إلى نيته الترشح للانتخابات الأمريكية في عام 2024. وفي السياق عينه ترددت الأنباء أو التسريبات عن نيته تشكيل حزب جديد (أمريكا أولا). هذا يعني أن السنوات المقبلة سوف تشهد نمو الشعبوية والعنصرية في أمريكا، التي هي في الأصل موجودة وبقوة خلال العقدين السابقين من هذا القرن، أو قبل هذا التاريخ بسنوات، بصعود بوش الأب والابن مع فترة ثماني سنوات فصلت بينهما، وهي فترة تولي كلينتون دفة الإدارة الأمريكية.
في تسعينيات القرن المنصرم؛ تم الترويج إلى أن القرن الواحد والعشرين سوف يكون قرنا أمريكيا، أي أن أمريكا سوف تتربع على عرش السيطرة على كوكب الأرض، وهذا التوجه في حد ذاته يشير إلى النفس العنصري في عقول صانعي السياسة الأمريكية، وهذا التوجه العنصري لم يكن سببا بل كان نتيجة للعنصرية المترسخة في عقول ونفوس صانعي السياسة والاستراتيجيات في الولايات المتحدة الأمريكية. عليه فإن العنصرية والشعبوية الأمريكية، لها جذورها التاريخية، التي ترتبط بصورة أو بأخرى بنشأة وتطور الولايات المتحدة الامريكية، التي اعتمدت على العناصر الأنكلوسكسونيين من البروتستانت. لاحقا وخلال عمر الولايات المتحدة كله؛ كان للعنصر الأبيض، وتحديدا، العنصر الأبيض القادم من شمال أوروبا، من ألمانيا وإنكترا؛ جميع الفرص في التطور والتربع على عرش المال والأعمال في الولايات المتحدة، بينما كانت الأقليات الأخرى من أمريكا اللاتينية، أو من جنوب وشرق وجنوب شرق آسيا؛ هامشا من هذا التطور وفي جميع الحقول، إلا البعض القليل والقليل جدا، الذين، مكنتهم قدراتهم الذاتية، وفضاءات حرية الحركة والعمل بفعل الدستور الأمريكي المعدل والحديث؛ من أن يكون لهم وجود في هذا المستنقع، أي مستنقع المال والأعمال وما يتصل بهما. مع هذا، فهؤلاء لا يشكلون كتلة مجتمعية صلبة في المجتمع الأمريكي، لها وجودها الفعال، ولها حاضنتها الاجتماعية، إلا في ظل الحزب الديمقراطي، أو في ظل الحزب الجمهوري أو بمعنى آخر لم يكن لهم وجود حزبي يمثلهم، ويكون له وجود فعلي ومؤثر في صناعة القرار والسياسة الأمريكية.
السنوات المقبلة، ربما تكون صراعا أمريكيا داخليا بين المحافظين الجدد والنازيين الجدد، والديمقراطيين
في الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي أسفرت عن فوز بايدن، انشطر الحزب الجمهوري إلى قسمين، واحد يؤيد فوز بايدن، والآخر يدعم ترامب ولو بصورة خجولة، هذا التأييد لفوز بايدن لم يكن بسبب الرفض لسياسة ترامب العنصرية، بقدر ما أن دوافعه؛ هي المحافظة على الديمقراطية الأمريكية، ومؤسساتها. إن سنوات بايدن وهو على رأس الإدارة الأمريكية سوف تكون سنوات صعبة ولا تخلو من الاضطراب والفوضى في الداخل الأمريكي. هذه السنوات سوف تشهد خضة قوية للمجتمع الأمريكي وللحزبين، الجمهوري والديمقراطي على حد سواء. وربما ينتج عنها بروز أحزاب وتيارات جديدة؛ يكون لها حضور في المشهد السياسي الأمريكي. ربما تمضي عدة سنوات حتى يتسنى للولايات الأمريكية أو لصانعي قوانينها وقراراتها وسياستها؛ إعادة صياغتها من جديد، بعد اقتناع الاستراتيجيين من ساستها؛ بأهمية وضرورة التغيير، الذي سيصبح لا مفر منه كي يواكب ويرتفع الى مستوى التحول والتبدل في المجتمع الأمريكي، هذه الإعادة للصياغة ليس من بينها تفكك الولايات المتحدة بفعل أساس تكونها الأول الذي ابتني على المال والأعمال والحرية الفردية، وما له علاقة عضويه بهم ،أي بالرأسمالية الأمريكية.
السنوات المقبلة، ربما تكون صراعا امريكيا داخليا بين المحافظين الجدد والنازيين الجدد، والديمقراطيين. لذا، فإن الديمقراطيين وفي حركة ذكية واستباقية؛ قاموا بتفعيل المادة 25 من الدستور الأمريكي، لغرض عزل ترامب. الغاية لم تكن العزل لذاته، بل كانت لغرض تسقيط ترامب سياسيا، وحتى محاكمته المقبلة في مجلس الشيوخ الأمريكي، الهدف من هذه السيناريوهات جميعها، في الأول والأخير، هو لغرض إنهائه سياسيا. نعود الى صعود العنصرية والشعبوية في أمريكا وحتى في الغرب بصورة عامة، مع أنها متجذرة في المجتمع الأمريكي، ما هي إلا رد فعل للعولمة في العالم، بعد كانت نائمة تحت الرماد. العولمة تتراجع جزئيا في العالم في الوقت الحاضر، ولكنها لن تختفي بفعل حاجة الشمال المتطور لها؛ رأس المال العابر للحدود، والبضائع العابرة للحدود، الشركات العابرة للحدود والجنسيات، والعمالة العابرة هي الأخرى للحدود، وثورة الاتصالات والمعلوماتية. وفي ما يخص التطور العالمي لا أحد، أو أي دولة على الكرة الارضية قادرة على إيقافه، أو حتى الابتعاد عنه؛ لأنها في هذا تعزل، وتحرم، نفسها وشعبها ووطنها عن مخرجات هذا التطور. العنصرية والشعبوية الأمريكية والغربية، رد فعل لهذا التطور أي للعولمة؛ لأنها شعرت بأن هناك في ديارها من ينافسها، ويُغِيب هويتها الوطنية.. لذا، فإنها لا تشكل سوى مرحلة انتقالية مضطربة، سوف تتراجع وتختفي بعد سنوات من المشهد السياسي، سواء في أمريكا او في الغرب. الارتفاع إلى مستوى التطور الإنساني، سواء على صعيد الداخل الأمريكي، أو على صعيد الداخل الغربي، أو حتى في العالم الثالث؛ يستوجب من صناع السياسة الأمريكية؛ إعادة صياغة أمريكا بما ينسجم، ويرتفع إلى سقوف هذا التطور في أرجاء المعمورة.
كاتب عراقي