انتهى انسحاب رجل العالم المريض من أفغانستان إلى كارثة سوف تعيش آثارها لأجيال، أكثر مما عاشت كارثة سايغون، وسوف تضع صانعي السياسة في واشنطن، ديمقراطيين وجمهوريين ومستقلين، على حد سواء، في مواجهة تسونامي سياسي يبدو أنهم لم يدركوا أبعاده بعد. تسونامي ما بعد أفغانستان سيغير خريطة توزيع القوى في العالم، والتوازنات الإقليمية في كل أركان الأرض، كما سيغير محركات القوة التي تعتمد عليها الدول والوحدات السياسية في الفترة المتبقية من القرن الواحد والعشرين، لتجد البشرية نفسها أمام عالم جديد مختلف كليا عن عالم ما قبل أفغانستان.
جوزيف بايدن أعلن ضمنا في خطابه بعد الانسحاب من كابول عنوان استراتيجية جديدة: الولايات المتحدة قررت مواجهة الصين وروسيا مجتمعتين. ظاهر الأمور حتى الآن يشير إلى أن احتمال خسارتها أكبر من انتصارها، رجل العالم المريض لن يموت، لكنه سيكون مجرد واحد من مفاتيح القوة في العالم، وليس القوة المهيمنة؛ فقد انتهى عصر الهيمنة المنفردة على العالم.
وبينما كان الرجل المريض ينتحب حزنا على آخر قتلاه في حرب أفغانستان، كانت وكالة الفضاء الصينية تدير «غرفة دردشة» عبر الفيديو بين الأرض والفضاء، يتبادل فيها رواد المحطة الفضائية (تيانهيه – Tianhe) الحديث مع عدة مئات من شباب هونغ كونغ، ويفتحون لهم صندوق أسرار الفضاء بالعين المجردة، من خلال رحلة وحوار بالكاميرا داخل المحطة، والفضاء المحيط بها، تظهر للمتابعين على الأرض كيف يمارس رواد الفضاء حياتهم اليومية داخل المحطة، وكيف يعملون خارجها، ويتبادلون الحديث بينهم. لم يكن اختيار قادة الصين لشباب هونغ كونغ ليكونوا ضيوف غرفة الدردشة عبثا، وإنما تم هذا الاختيار بعناية ليكون رسالة إلى الجيل الجديد من أبناء الجزيرة الصينية، وكأن بكين تقول لهم: هذه هي الصين، انظروا إليها في الفضاء، بينما رجل العالم المريض يلعق جراحه على الأرض! قادة بكين لم يفوتوا دقيقة واحدة بدون استثمار «لحظة كابول» لتعزيز قوتهم السياسية، وتصويب رسائل ذات معنى لمن يهمهم الأمر، أولا في هونغ كونغ، الذين علت أصواتهم بالأمس في الدعوة للانفصال عن الصين، وثانيا لحكومة تايوان التي تقف وراءها واشنطن من أجل ضرب مبدأ «الصين الواحدة» ولكل من يرى ويسمع في العالم وراء الستار الحديدي الذي تحاول واشنطن أن تعزل الصين وراءه.
لن يستطيع الرجل المريض أن يحارب الصين وروسيا في وقت واحد، فالأولى تتربع في الفضاء والثانية تنبع منها شرايين الطاقة إلى أوروبا
وبينما كان الرجل المريض يوجه رسائل صريحة إلى حلفائه في أوروبا، بأن سياسته الخارجية بعد أفغانستان ستنطلق أساسا من الدفاع عن المصالح القومية الأمريكية، فإنه لم يدرك أن ترجمة هذه الرسالة في عواصم رئيسية مثل برلين وباريس، وحتى في لندن أقرب حليف للولايات المتحدة، هي: فلتذهبوا جميعا إلى الجحيم، لأننا أكثر حرصا على مصالحنا القومية. أوروبا فهمت الرسالة، وتعيها الآن جيدا، ما سيضع استراتيجية الاتحاد الأوروبي على مسار مختلف تماما، وكذلك بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي في توقيت خاطئ، ولا مناص أمامها الآن إلا البحث عن صيغة جديدة لعلاقات قوية مع أوروبا ومع العالم. جوزيب بوريل، مفوض الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، قال تعليقا على خطاب بايدن في نهاية أغسطس/آب أن أوروبا ليس أمامها إلا أن تبدأ في إنشاء قوة عسكرية دائمة، إذا حدث ذلك فإن دور حلف الأطلنطي سينتهي عمليا. وزير الدفاع البريطاني بن والاس قال ما معناه إن أمريكا لم تتصرف في انسحابها من أفغانستان كقوة عظمى، لأنها لم تعد تقدر على ذلك.
وبينما كانت خطوط الهاتف محمومة بالاتصالات بين بكين والقوة السياسية الصاعدة في أفغانستان، كان جو بايدن يستقبل في البيت الأبيض الكوميديان زيلينسكي رئيس جمهورية أوكرانيا، الذي طار إلى واشنطن للحصول على ما يمكنه الحصول عليه، قبل أن تفرغ خزانة الرجل المريض من أموال المعونة. ولا يستطيع أي مراقب في العالم أن يرى لقاء بايدن – زيلينسكي يوم الخميس الماضي، إلا في هذا السياق، كما قالت «واشنطن بوست». بايدن لم يستطع منع روسيا من وقف إنشاء خط الغاز الجديد عبر البلطيق إلى أوروبا، وهو ما سيحرم كييف من أكثر من مليار دولار كانت تحصل عليها سنويا كرسوم لعبور الغاز عبر الخط الأوكراني. على النقيض من ذلك تقترب الصين من توقيع اتفاق مع طالبان، يكرس علاقات الصداقة مع أفغانستان، ويفتح الباب لانضمامها إلى مبادرة الحزام والطريق، وهي أمور ناقشها مسؤولو وزارة الخارجية الصينية مع المرشح لتولي حقيبة وزارة الخارجية في حكومة طالبان مولوي عبد السلام حنفي نائب رئيس المجلس السياسي لطالبان.
وبينما كان الرجل المريض يعاني من دوار الكارثة، هرع نفتالي بينيت رئيس وزراء إسرائيل إلى واشنطن، أولا ليجدد عهد الولاء لواشنطن في مواجهة الطامعين لوراثة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، وثانيا لضمان أن تكون إسرائيل هي صاحبة النصيب الأكبر من الميراث، وأن تشارك الرجل المريض في وضع قواعد تقسيم «أملاكه – نفوذه» في العالم. البعض اعتقد أن توقيت زيارة بينيت كان خاطئا، لكن بينيت يعرف أنه لا توقيت أفضل من ذلك، لضمان أن تكون إسرائيل صاحبة بصمة رئيسية على المرحلة الانتقالية بين لحظة كابول، واللحظة التي تليها، التي لم تتحدد ملامحها بعد. بينيت أراد أن يبلغ واشنطن رسائل واضحة من إسرائيل، بشأن إيران والخليج وشرق البحر المتوسط والبحر الأحمر والقرن الافريقي والمحيط الهندي، وهي مناطق النفوذ التي ستصبح في الغد مسرح منافسة حامية بين القوى الرئيسية الصاعدة بالمنطقة والعالم. كذلك فإن زيارة بينيت لم تكن لمجرد عقد قمة ثنائية في البيت الأبيض، وإنما كانت بوتقة عمل متعدد الأطراف والمستويات، شملت المسؤول التنفيذي عن السياسة الخارجية الأمريكية أنطوني بلينكن، والمسؤول التنفيذي عن السياسة الدفاعية لويد أوستن، وقيادات مراكز التفكير وأعضاء الكونغرس، وقبلهم جميعا كان لقاؤه مع قيادات اللجنة الأمريكية – الإسرائيلية «أيباك» كبرى جماعات الضغط الأمريكية.
وبينما كان الرجل المريض يحصي خسائره الاقتصادية بعد لحظة كابول، ويحاول الكشف عن أسباب فشله في مكافحة العجز التجاري والمالي، ومقاومة القلق من ضعف معدل إتاحة وظائف جديدة للعاطلين وطالبي العمل، ومكافحة جائحة كورونا، كانت روسيا تحتفل بإنجازاتها الاقتصادية على أكثر من جبهة، وهي إنجازات تراها موسكو ضرورية لاستعادة دورها الذي فقدته منذ تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي. بوتين لم ينس، ولن تنسى روسيا للرجل المريض أنه نفذ بعناية عملية «هندسة سياسية» أسقطت سبعة عقود من النمو، وقذفتها من مرتبة «القوة العظمى» إلى مرتبة «الدولة النامية». روسيا تحاول النهوض، وقد نجحت في أن تتقدم بسرعة من مصاف «الدولة النامية» إلى مصاف «القوة الرئيسية» من جديد، مستعينة بثلاثة أسلحة رئيسية هي القمح، والنفط – الغاز، والسلاح. وفي المواجهة ضد روسيا فشلت الولايات المتحدة في إقناع حلفائها الأوروبيين بتقليل اعتمادهم على إمدادات الغاز والنفط الروسي. روسيا لم تستخدم الطاقة كسلاح سياسي، مثلما فعل العرب في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، فبالتالي سقطت حجة الأمريكيين. روسيا تزود أوروبا بما يقرب من نصف وارداتها من الغاز الطبيعي، وأكثر من ربع وارداتها من البترول، وارتفعت قيمة صادراتها الزراعية وأهمها القمح إلى 30 مليار دولار، وتضاعفت قيمة صادراتها الزراعية أكثر من ثلاث مرات في العامين الأخيرين. وفي سوق السلاح اخترقت أسواقا تقليدية كانت حكرا على السلاح الأمريكي مثل، تركيا والسعودية والإمارات.
لن يستطيع الرجل المريض أن يحارب الصين وروسيا معا في وقت واحد، بينما الأولى تتربع في الفضاء والثانية تنبع منها شرايين الطاقة إلى أوروبا. الصين أعلنت صراحة وبدون مواربة أنها تسعى لأن تصبح القوة الرئيسية الأولى في العالم بحلول منتصف القرن الحالي. لكن يبدو أنها، بسبب التصعيد الأمريكي ضدها خلال فترة حكم دونالد ترامب، تعمل على الوصول لتلك المكانة خلال فترة تتراوح بين 10 إلى 15 عاما وليس بعد 30 عاما. نتائج الحرب الباردة الجديدة، التجارية والتكنولوجية والسياسية والسيكولوجية، التي بدأها ترامب ضد الصين منذ عام 2017 والتي يسير فيها بايدن، أنتجت آثارا معاكسة لصالح الصين. الحرب التجارية لم تصلح الميزان التجاري الأمريكي، والحرب التكنولوجية حفزت الصين على تحقيق مزيد من الاعتماد الذاتي. وبينما تتجه الصين إلى مزيد من الانفتاح على العالم، من خلال مبادرة الحزام والطريق، فإن أمريكا تتجه إلى المزيد من الانعزالية، على حد تعبير جون ميجور رئيس وزراء بريطانيا الأسبق. وسوف يتعين على واشنطن أن تعيد صياغة استراتيجيتها العالمية إذا كانت تريد المحافظة على مكانتها كقوة رئيسية في العالم.
كاتب مصري
نحن ننتظر ذلك و لعله قريب
حال عالمنا العربى يرثى له
بالنسبة لعالمنا العربى الصين ليست افضل من امريكا بل ربما تكون اسوأ