في كل لغة من اللغات الطبيعية عبارات كثيرة للدلالة على معنى الجهل بالشيء، وتعدّ العربية من تلك اللغات التي لها زاد معجمي للتعبير عن هذا المعنى. ويعنينا في هذا المقال أن نبيّن من خلال مادة (ج ه ل) وتقليباتها في العربية كيف تطوّرت العبارة وباتت تقترن بالعلم في معناه المدرسي والأكاديمي، أكثر من اقترانها بالمجالات الأخرى الموسوعية.
الجهل في معناه البسيط يرتبط بالشخص الجاهل، ذلك الذي لا يكون عارفا بشيء يكون الآخرون على معرفة به. بهذا المعنى العامّ، فإنّ كلّ شخص يكون في وضعية جهل بأشياء كثيرة يعلمها الناس، ولا علم له بها. فالأصل فينا أنّا نجهل بكثير من ملابسات الأمور، التي يكون غيرنا على علم بها؛ لكنّ هذا حساب منطقي للجهل، سيؤدّي بكل شخص منّا إلى أن يكون جاهلا أكثر من أن يكون عالما، لذلك تنسّب الدلالة بالسياقات التي يكون فيها الجاهل غير عارف بشيء بالذات. فحين ينزل المطر وأنت لا تعرف أنّه نزل لأنك لم تكن موجودا في المكان الذي نزل فيه، فأنت لست جاهلا لأنّك لم تشارك الناس المكان ولا الزمان لتشاركهم المعلومة، بل نزول المطر في مكان لست فيه قد لا تعنيك معرفته وقد لا تكون معرفته شيئا ذا بال إن فاتك أو ضيّعته. اللغة التي نستعمل فيها عبارة جهل هي لغة تراعي تملكنا للمعطيات الموسوعية، التي علينا أن نتملّكها ولا تراعي المعطيات الموسوعية، التي لا نحتاجها أو التي ليست في حيّزنا.
اختار سقراط أن يحدّ الجهل بحدّ قاطع هو ما قبل التربية.. التربية تعطي الأشياء معانيها الفعلية، بعد إذ كانت مجرّدات غير ملموسة أو عينيّة. أنت ستكون جاهلا بما يكون الموت، بما تكونه الحياة، بما يكونه الألم والفرح والمأساة، قبل أن تربّيك المدرسة مثلا، بأن تفقّهك معناها الملموس. التربية هنا هو أن نهذب معارفنا بالأشياء، بعد أن كانت غامضة مبهمة أو مجردة. لا يسألك الناس إذن عن الجهل بالشيء قبل أن تعرف، هم يسألونك بعد أن يعتقدوا أنك تعرف أو عليك أن تعرف: لمَ أنت جاهل به؟
غير أنّ الإشكال في هذا الطرح أنّ لكلّ منّا بعد التعلم والتمدرس والتربية والتهذيب مفاهيم يصوغها بطريقته تدور حول معاني الحياة والألم والسعادة وغيرها. هناك في الذهن خزّان للمعاني هذا صحيح؛ لكنّ في الذهن ومع الخزان شيئا كالقطران الذي تعلق به المعاني والدلالات الذهنية عن الأشياء، أو المواضيع التي كنا نجهلها وبدا لنا أنّا فقهناها. التمثيلات الدلالية التي لدينا عن الحرّية مثلا مختلفة، حتى إنّ قوما يعتبرون حريّة ما يعده آخرون همجية؛ لقد كان همج الحرّية يعتبرون تصورهم للحرية أداة تمكنهم من افتكاك أملاك الناس، حتى يحققوا مفهوما آخر محرفا عندهم هو العدالة. لقد علق في الأذهان بعد التربية على القيمة عند هؤلاء، أنّ الحرية والعدالة تمثيلان ذهنيان يعنيان أن تتصرف من غير ردع تصرفا يقودك إلى افتكاك ملك غيرك. التمثيلات الدلالية التي اكتسبت بعد التدريب والتربية كانت بهذا الشكل عالقة بشكل يعتقده أصحابه هو الصحيح، وأنّه من الجهل أن يعيش المرء وهو منكور مقهور مفرّط في حقوقه، التي افتكها منه الناس: صحيح أنّ الحقوق التي يريد افتكاكها لم يبنها ولم ينتجها، لكنّه يعتقد أنّ الزمان حرمه إيّاها لكي تكون له في ما بعد باسم الحرية والعدالة، التي يراها أصحاب الحق همجية واعتداء.
كلّ جهل إذن يحدث بعد المعرفة، قد يكون في حقيقة الأمر بناء لدلالة القيمة، وفق وجهة نظر معلومة؛ ولهذا يمكن أن يتدخّل القانون من أجل تعليم الناس ما القيمة الصحيحة. ثمّ يأتي الردع لمن كان جاهلا أو متجاهلا لأنّ كلّ ردع في هذا السياق إنّما هو تعديل للمعاني التي يعتقد الناس أنّها الحقيقية، ويعتقد واضعو الحدود أنّها الزيف.
في تاريخ العرب تسمّت المرحلة التي سبقت الإسلام بالجاهلية، وفي السياقات التي وردت فيها هذه العبارة في القرآن مقارنة بين تصوّرين، أو لنقل بين تمثيلين دلاليّين: سابق هو المخطئ ولاحق هو المصحّح أو التصحيحي: يقول تعالى في سورة آل عمران (154) (يظنون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء، قل إنّ الأمر كلّه لله). الجاهلية، اشتقاق غريب لوصف أنّ ما سبق كان فيه جهل بالأمور، وأنّ ما لحق جاء بالحقيقة. بهذا الفهم ليست الجاهلية حقبة وحسب، بل هي حقبة ران فيها الجهل بالأشياء قبل أن تأتي حقبة أخرى عرف فيها الناس الحقيقة. وبناء على ذلك تسمّت حقبة بأكملها بالجاهلية هي التي سبقت الإسلام فيها كان الناس يظنون بالله غير الحقّ. فهو موجود في أذهانهم، ولكنّ الحقيقة التي كان الناس يحملونها عنه لم تكن هي الحقيقة التي سيثبتها الدين الجديد: إنّ الإنسان يمكن أن يكون فاعلا في الكون بأعماله، ولو كان فيها بعض فاعلية. ثمّ جاء النصّ بالحقيقة: إنّ الأمر كلّه لله؛ وبذلك تربّي العقيدة الجديدة الإنسان المؤمن بها على أنّه لا قيمة في التاريخ للبشر وأنّ فعلهم وحركتهم في الكون ومصيرهم كله من عند الله وبيده.
لقد اقترن الجهل بالعلم اقتران تضاد، حتى تعرّف كل طرف منهما بالآخر تعريفا بالخلف، لا جهل إلا قبل علم ولا علم إلا بعد جهل. أمّا الجهل بعد العلم فذلك تجاهل إن أراد المرء عدم الإصداع بالعلم بالشيء؛ ويكون جاهلية إن كان في الأمر معرفة بالعلم الجديد وإصرار على مواصلة الحياة القديمة. حين يصل العلم درجة من الوثوقية المطلقة وغير العلمية، يسمّى إيمانا ويسمّى الإصرار على التجاهل كفرا. لكنّ الجاهل البسيط قد لا يكون عارفا بتفاصيل العلم الجديد لذلك يقادون طوعا أو قسرا إلى تعلم ما يعدّ حقائق جديدة، وتسمّى مبادئ ذلك التعليم فقها، أو كلاما أو شرعا وهذه العلوم الشرعية، أمّا ما جاوزها من المعارف، مثل معارف أهل الباطن فهي ليست شرعية ولا يسمّى أصحابها جهلة، بل يسمون أهل باطن أو يسميهم أعداؤهم ملاحدة؛ لأنّهم في رأيهم جماعة لم يعد إرجاعهم عن جهلهم ممكنا، فهم ماضون في غيّهم متشبثون بجاهليتهم الأولى.
حين يكون العلم وضعيّا فإنّ الجاهل بمبادئ ذلك العلم يتسمّى بأسماء مختلفة لا تشتق من الجهل إلاّ في مواطن التشكيك، أو الجدل، أو المماحكة، أو الحط من كل قيمة علمية. حين لا يعرف المرء القراءة والكتابة يعدّ أمّيا وحين لا ينجح في إتقان معرفة من المعارف قد يشبه بأقذع النعوت، لأنّ المجتمع الصغير قرّر أنّ المعرفة هي أصل الأشياء، وأنّ الجهل بها هو فرع. فيستقيم بين الناس أنّ الأصل في الأشياء أن تعرف، وهذا شعار لا يكون الواقع تطبيقا له. هناك ضرب من المقاومة من الجانبين: جانب العلم وجانب الجهل: العلم يقاوم بتشييع المعرفة، أو تبسيطها، أو تهذيبها ونشرها بين الناس عبر ما يسمّى النقل التعليمي.
في النقل التعليمي تضيع عناصر كثيرة من العلم الأصلي وأحيانا تضيع نواته الأصلية. ففي اللغة، وعلى سبيل المثال، فإن الفعل إمّا أن يكون لازما وإمّا أن يكون متعدّيا؛ وإن قلت إنّ اللازم يمكن أن يتعدّى قيل لك لا يمكن ذلك إلا بحرف الجر؛ لكنّ الفعل اللازم يتعدّى إلى المفعول المطلق (خرج زيد خروجا) فهذا ركن ناقص في النقل التعليمي، يكون الجهل به بمنظار المعرفة العالمة محرجا وتكون المعرفة به في المعرفة الملقّنة مشكلا. قد يأتي الجهل بعد أن يتمكّن العلم المبسّط من الأذهان ويعتقد الناس أنّه هو العلم الصحيح ويمكن أن يراجع به أحوال المعرفة العالمة نفسها. هذا ما يحدث كثيرا من جراء المعرفة المعلمة، التي لا تقول دائما إنّها معرفة ناقصة، وإنّ التهذيب الذي فيها ذهب بكثير من حقائقها ومن تفكير أصحابها الفعلي فيها.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية